شبهة إنكار نظرة الإسلام المتوازنة إلى الإنسان ينكر دعاة المادية على الإسلام نظرته المتوازنة للحضارة الإنسانية عموماً، وللإنسان خصوصاً روحاً وجسداً، ويزعمون أن الإنسان الجسد هو المقوم الأمثل والأوحد للحضارة المادية، وهو القرد كما يؤكد دارون. وهم بهذه الدعوى، ينكرون صلاحية المنهج الإسلامي لإرساء مقومات الحضارة الإنسانية، ويشككون في الأسس التي يقيمها الإسلام في نظرته للإنسان وبناء شخصيته السوية وفق مبادئه العالية والسامية. وجوه إبطال الشبهة: فالأولى عادلة متوازنة بين الروح والجسد، أما الأخرى فمادية متدنية؛ وذلك أن تصور الإنسان بوصفه مجموعة من الغرائز الجسدية تصور خاطئ؛ 2) إن الارتقاء المادي ليس دليلاً أو مقياساً للرقي الإنساني المأمول، فعلى الرغم من التقدم الذي وصلت إليه الحضارة الغربية - فإنها لم تحقق السعادة الإنسانية. والنظر إليه على أنه جسد فقط يقيم حضارة إنسانية؛ لما بحث ضحايا المادية عن الإسلام بديلاً روحياً. التفصيل: النظرة الإسلامية المتوازنة للإنسان: لقد ذم مثيرو هذه الشبهة الإسلام، بما ينبغي أن يمدح به، وإن حضارة الإسلام لا تقف عند النظرة المتدنية للإنسان، فإن له عقلا وقلبا، وفي هذه تفترق عن سائر الحضارات من أعز مكان وأشـرفه، لا غنى لأحدهما عن الآخر، بيد أن الروح سيد مطاع، والجسد خادم مطيع، وهذه الروح لا تفارق الجسد، إلا مرة واحدة، حين يقبضها ملك الموت، ولا أحد يستطيع أن يعطي رأيا في ماهيتها، فقد حسمها الله بشكل قطعي في قوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [1] ويسألك الكفار عن حقيقة الروح تعنتًا، فأجبهم بأن حقيقة الروح وأحوالها من الأمور التي استأثر الله بعلمها، وما أُعطيتم أنتم وجميع الناس من العلم إلا شيئًا قليلاً [2]. ثم إن للجسد حقوقاً ومتطلبات، لكن لا قيمة لجسد فارقته روحه، فهو جثة هامدة خاوية مهما تكن ضخمة وجميلة، فهي بعد الفراق شيء موحش، وعند نقل هذا المعنى إلى مجاله الشـرعي، وتبرز حتى يؤديها ببصيرة ووفاء وقوة ومضاء. إن بعض الناس جهل الحكمة العليا من وجوده، فعاش عاطلا في زحام الحياة، وكان ينبغي أن يشق طريقه على هدى مستقيم، توضح كل شيء في هذه الرسالة. لقد بدأ هذا الخلق من تراب الأرض وحدها، والبشـر جميعاً في هذه المرحلة من وجودهم، ﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ [3] الله الذي أحكم خلق كل شيء، وهو آدم عليه السلام من طين، ثم جعل ذرية آدم متناسلة من نطفة ضعيفة رقيقة مهينة، أتم خلق الإنسان وأبدعه، ونفخ فيه مِن روحه بإرسال الملك له؛ لينفخ فيه الروح، ونعمة العقل يُميَّز بها بين الخير والشـر والنافع والضار. قليلا ما تشكرون ربكم على ما أنعم به عليكم[4]. إن الإنسان كائن عظيم حقاً، ومن الناس من يقدرون نسبهم الإلهي هذا فيجعلون الحياة تزدان بالمعرفة والكرامة والفضيلة. فالمادية تشد الناس إلى أسفل، يتحرك بنزعات القسوة والأثرة وحدها، أم تكون الهيمنة للقلب الإنساني المتطلع إلى الكمال، والحب، والإيثار؟ ذاك ما يجب أن يعرف بجلاء وأن ترتفع حناجر المصلحين به، وقد حملنا نحن المسلمين حضارة أعلت قدر الإنسان، وغير ذلك مما لا يحصى، والباطنة في العقول والقلوب، وما ادَّخره لكم مما لا تعلمونه؟ ومن الناس مَن يجادل في توحيد الله وإخلاص العبادة له بغير حجة ولا بيان، إن هذا التسخير لآفاق السماء، وجعلها في خدمة الإنسان يتضمن إشارة بينة إلى أن الإنسان خلق ليكون سيدا لا مهانا، إن سجود الملأ الأعلى له في السماوات، موفور الحرمة مدعوم المكانة، قال سبحانه وتعالى: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾[7] أفحسبتم -أيها الخلق- أنما خلقناكم مهملين، لا أمر ولا نهي ولا ثواب ولا عقاب، ومطالب الروح، وواجبات الآخرة، فكأن الإنسان بعد هذا الصلح الذي عقده الإسلام كيان واحد يستقبل به عالماً ليست فيه فواصل بين الموت والحياة. بالعمل فيها بطاعة الله في الدنيا، ولا تترك حظك من الدنيا، بأن تتمتع فيها بالحلال دون إسـراف، وأحسن إلى الناس بالصدقة، ولا تلتمس ما حرَّم الله عليك من البغي على قومك، وسيجازيهم على سوء صنيعهم[10]. فإن العمل للدنيا بطبيعته يتحول إلى عبادة، وسمو الغاية، وليس فيه تغليب للجسد على الروح، ولا للروح على الجسد، إنما فيه تنظيم دقيق يجعل معنويات الإنسان هي التي تتولى قياده، وتتمسك بزمامه، فلا هو براهب يقتل نداء الطبيعة، ويميت هواتف الفطرة، وأشواقها إلى الرفعة والخلود. ويمشون في الأسواق ﴿ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ﴾ في الدنيا؛ بل يموتون كسائر البشـر[12]. لكن توفير هذه الحقوق ليس إلا لصيانة الفؤاد والفكر، وحماية القلب والعقل، فما أشبه هذا الجسم، بزجاجة المصباح الكهربائي، فلو انكسـرت ذهب الضوء واحتبس التيار. ومع ذلك فالمحافظة على هذه الزجاجة وتلميعها وإزالة الغبار من فوقها شيء غير مقصود لذاته، فقـال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [13] وطهارة الروح أساسها حسن الصلة بالله، وطهارة البدن بإزالة ما لا يليق بمكانة إنسان كريم على الله، له رسالة سماوية مجيدة. وآفة الحضارة المادية أنها سخرت العقول للشهوات، وأطلقت نداء الطين، ورأت أنه - كلاً وجزءاً - نشأ من الأرض، فلا يجوز أن يرفع رأسه إلى أعلى، ولكنها تتمثل في أن يخضع لقيود الكمال، وأن يتصـرف داخل نطاقها وحده: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [14] أي: لا ينبغي ولا يليق، إلا الإسـراع في مرضاة الله ورسوله، والهرب من سخط الله ورسوله، وامتثال أمرهما، واجتناب نهيهما، وحتَّما به وألزما به ﴿ أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ أي: الخيار، هل يفعلونه أم لا؟ بل يعلم المؤمن والمؤمنة، ﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36] أي: بَيِّنًا، فذكر أولا السبب الموجب لعدم معارضته أمر الله ورسوله، وهو الإيمان، ثم ذكر المانع من ذلك، الدال على العقوبة والنكال[15]. حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا زُهْرَةُ يَعْنِي ابْنَ مَعْبَدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ هِشَامٍ أَبُو عَقِيلٍ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ)). فَقَالَ عُمَرُ: فَأَنْتَ الْآنَ وَاللهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي. ما الحرية التي هفت إليها الشعوب وتنادى بها كبار القلوب؟ إنها حق البشـر في تأمين الوسائل التي يحيون بها زكية نقية، وليست حق امرئ - أي امرئ - في أن ينسلخ عن طبيعته، أو يتمرد على فطرته، أو يجمد نسبه الروحي إلى رب العالمين، وإبعاد الأمور عن مجراها. والواقع أنك لن تجد أعبد ولا أخنع من رجل يدعي أنه حر فإذا فتشت في نفسه وجدته ذليلًا لشهواته كلها،