تابعت كما تابع غيرى العملية الأخيرة لحركة حماس، وكان انطباعي الأول على رؤية المشاهد المتتابعة عبر الفضائيات هو «الانبهار» بحجم العملية وبقدرة حركة حماس على التخطيط والتنفيذ لمثل تلك العملية الكبيرة بذلك النجاح الساحق، والانبهار مرجعه: أننا أمام أكبر هجوم فلسطيني وعربي داخل فلسطين المحتلة سنة 1948 منذ إنشاء “إسرائيل”؛ بما في ذلك مقر قيادة “فرقة غزة” التي تتبع جيش الاحتلال. ونحن أمام أكبر عدد من القتلى الصهاينة في كل الحروب التي خاضها الفلسطينيون بعد 1948. رافقتها أسوأ حالة ارتباك وأسوأ مظهر مهين لمنظومة الحكم الإسرائيلية. وظهرت ردود فعل عصبية و متشنجة تتلخص في المزج بين «الصدمة» (من وقوع العملية) و«الحسرة» على (نتائج العملية) ، والتي أحدثت عدداً من النتائج فهمها الاحتلال وإن لم يعترف بها، وكان أهم ما فهمه: سقوط الرادع الإسرائيلي ليس أمام حماس وحدها بل أمام العالم بأسره. فشل المشروع الصهيوني في تطويع الإنسان الفلسطيني. فشل “إسرائيل” في تقديم نفسها كشرطي دائم للمنطقة. والغريب أن سبب هذا الانكسار الإسرائيلي الذي حدث أمام حركة حماس في 7 أكتوبر2023، هو نفس السبب الذى أدى لفشل إسرائيل الذريع في 6 أكتوبر1973 أمام جيوش مصر وسوريا. الا وهو رسم صورة معينة لوضع أمنى في مخيلة مؤسسة الأمن الإسرائيلية ورفض كل ما سواها حتى ولو كانت هناك معلومات أو مؤشرات تخالف أو حتى تتصادم مع تلك الصورة. ففي حرب أكتوبر يقول تقرير أجرنات (وهي اللجنة القضائية التي شكلتها الحكومة الإسرائيلية بقيادة القاضي شمعون أجرنات، للتحقيق في القصور الذى شاب أداء الجيش والحكومة في حرب أكتوبر): إن أحد أهم الأسباب التي أدت إلى مفاجأة الحرب بالنسبة لإسرائيل من قبل كلاً من مصر وسورية، يعود إلى التمسك الصارم في المخابرات الحربية الإسرائيلية (أمان) و (يقودها وقتها الجنرال إيلي زاعيرا) بما كانوا يسمونه “النظرية”، وفى 7 أكتوبر2023 وقع الجهاز الأمني الإسرائيلي في نفس الخطأ، واعتاد على تصديقه (رغم وجود إشارات تشكك، وملامح ذلك السيناريو المتخيل من قبل مؤسسة الأمن الإسرائيلي يتلخص في: لقد بنوا جداراً ذكياً مكلفاً للغاية بين غزة والمجتمعات الواقعة على الجانب الإسرائيلي من الحدود. لأنهم من جانب سوف يُسحقون من جانب القوة الإسرائيلية، ومن جانب أخر، ومع كل هذا وذاك كان الإسرائيليون يعتقدون أن حماس أصبحت في وضع مختلف الآن: فهي تركز على وقف إطلاق النار طويل الأمد، كما ويذهب نحو 000 19 عامل فلسطيني إلى إسرائيل كل يوم من غزة، وهذا يعود بالنفع على الاقتصاد ويدر إيرادات ضريبية لهم. لكن عصر يوم 7 أكتوبر اتضح أن هذا كله كان وهماً كبيراً عاشت فيه مؤسسة الأمن الإسرائيلية ، كيف تمكن مجموعة من مقاتلين حماس من تحقيق هذا الهدف؟! كيف تمكنوا من التغلب على مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي القوي وقوات النخبة الإسرائيلية؟! وبعدها تتابعت الأحداث، وضاع وسط زحام المشاهد، وطوفان الصور، وشلالات التصريحات سؤال بديهي ومنطقي وطبيعي وهو: ولماذا الأن؟ وكانت إجابة المراقبين في الغرب على السؤال تبدأ عند: استغلال حماس للوضع الداخلي الإسرائيلي المتفسخ، وتنتهى عند قتل عملية التطبيع المنتظرة بين السعودية وإسرائيل. لأن تلك العملية أدت «لتوحيد» الإسرائيليين بدلاً من «تشتيتهم» لمواجهة خطر حماس الذى رأوه بأعينهم صوت وصورة على شاشات الفضائيات، كما أن تلك العملية في أفضل الأحوال قد «تؤجل» عملية التطبيع بين السعودية وإسرائيل ولكن لن «تلغيها» لأن الموضوع باختصار هو خلق هو نظام إقليمي جديد تدخل فيه إسرائيل بسلاسة و نعومة لتوازن القوة الإيرانية في المنطقة العربية بعد شحوب الدور المصري الذى ما زال تائه في العراء الموحش بعد الانقلاب على مشروع مصر الناصرية. وأتابع باهتمام مجرى الحوادث لأرى أين سيصب؟ ورفع الحصار عن غزة». واستمعت للتصريحات ودققت ومن ثم اندهشت وتعجبت، أو أنه فعل تكتيكي خالي من أي مدلول استراتيجي. وذلك مخالف لعلم الاستراتيجية ذاته وشروح شيوخه الكبار (من نابليون لفولر لكلاوزفيتز)! وبين التساؤل والحيرة والاندهاش والتعجب، وتصريحات إسرائيل المعبأة بنار الغضب ونوازع الانتقام والمنذرة بالثبور وعظائم الأمور. سقوط خطة نتنياهو بالفصل بين فلسطينيين غزة وفلسطينيين الضفة، وهذا في اعتقادي هو جوهر العمل الاستراتيجي الذي أحدثته حماس بعمليتها فجر يوم 7 أكتوبر. سقوط إستراتيجية شارون وعقيدة نتنياهو في خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، قدم نتنياهو خريطة «الشرق الأوسط الجديد»، التي تُصور دولة إسرائيل الممتدة من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط وبناء «ممر السلام والازدهار» مع جيرانها في جميع أنحاء المنطقة، ويضيف نتنياهو: «إن الدولة الفلسطينية، لا تظهر على الخريطة كما ترون». ومنذ انتخابه رئيسًا للوزراء لأول مرة عام 1996، وبدلاً من ذلك اختار تجاوزها وتجاهلها وإخراجها خارج المشهد ، كما ادعى مراراً وتكراراً ، فهو يرى: «أن قوتها العسكرية والاقتصادية والسياسية تكفي من دونها». وللحقيقة فإن إسرائيل شهدت خلال سنوات حكمه، خاصة بين عامي 2009 و2019، وذلك كله قدمه نتنياهو للناخب الإسرائيلي كدليل على أنه يسير في الطريق الصحيح. كما عززت اتفاقيات إبراهيم الموقعة مع البحرين والإمارات العربية المتحدة، هذا الاعتقاد بشكل قاطع. وكان نتنياهو قد كتب في مقال نشرته صحيفة هآرتس قبل الانتخابات الأخيرة: «على مدى السنوات الـ 25 الماضية، وتابع نتنياهو: أعتقد أن الطريق إلى السلام لا يمر عبر رام الله، بل يتجاوزها، قلت إن السلام يجب أن يبدأ بالدول العربية، ولا استخدام حماس أداة لإضعاف منظمة التحرير الفلسطينية وطموحاتها الوطنية في إقامة الدولة الفلسطينية. وكانت خطة “الانفصال” عن غزة التي طرحها رئيس الوزراء آنذاك آرييل شارون في عام 2005 مبنية على هذا المنطق. فشارون الذي لم يوافق على اتفاقية أوسلو، ولم يقتنع في أي وقت من الأوقات بوجود سلطة وطنية فلسطينية، وعرفات نفسه كاد أن يذهب إلى النسيان بعد أن أخرجته من بيروت (يقصد غزو إسرائيل للبنان 1981 وكان شارون وقتها وزير الدفاع في حكومة بيجن) لولا اعتراف إسرائيل في أوسلو بمنظمته الإرهابية، وتلك تقليعة من تقاليع شيمون بيريز!» وكان “دوف فايسغلاس” (مستشار شارون وقتها) قد أوضح الهدف السياسي لفك الارتباط في ذلك الوقت بقوله: والتي تسمى الدولة الفلسطينية، وهذا يعود لتضارب في الرؤى وتضارب في المصالح، وبعد أن استولت حماس على قطاع غزة بانقلاب دموي ، أصبحت حماس كياناً حاكماً في قطاع غزة ، واعترض عليها الجميع (على المستوى الاقليمي والدولي) حيث أرادت قيادة حماس أن تُصبح أقل من سلطة حاكمة وأكثر من كونها حركة مقاومة مسلحة. وعلى الجانب الأخر، أن «سيطرة» حماس على القطاع ربما ليس سيئاً في كل جوانبه، لأن الحركة التي انتقلت لتصبح «سلطة» ستضطر لترك «منطق البندقية» والتعامل «بمنطق السياسة». وبهذا «تتساوى الرؤوس» بين المنظمة التي وقعت أوسلو وأخواتها ، تمسكت بالحسنيين «الحكم والنضال»! ، وهنا تدخل نتنياهو ليستغل ذلك الوضع فلم يكتفى بتبني طريقة فكر شارون، وفي عام (2018) على سبيل المثال، وهو ما يجسد التعليق الذي أدلى به “بتسلئيل سموتريتش” في عام 2015 (الذى كان آنذاك عضواً هامشياً في الكنيست، واليوم هو وزير المالية) بقوله: «أن السلطة الفلسطينية عبئاً وحماس ذخراً». وكانت وزيرة الإعلام الإسرائيلية (المستقيلة) “غاليت ديستل عطبريان ” كتبت، وكأنها تقرأ من كتاب مفتوح في مايو2019 ، (ووقتها لم تكن قد دخلت الحكومة، لكنها كانت معروفة بأنها من المؤيدين البارزين لنتنياهو): وإصابة الأطفال والآباء بصدمات نفسية، وقصف المنازل، وقتل الناس». وتضيف عطبريان: «“السؤال هو لماذا؟” وتابعت: “لأنه إذا انهارت حماس، فقد يسيطر أبو مازن على القطاع، أيضاً في يهودا والسامرة [الضفة الغربية] … وهذا هو السبب الحقيقي وراء عدم قيام نتنياهو بإزالة زعيم حماس، هذه هي الحقيقة ، لكن الغريب والعجيب أن نتنياهو نفسه قد اعترف بالفعل قبل شهرين من إدلاء عطبريان بتصريحاتها تلك، عندما أعلن في اجتماع عام لليكود أن: «كل من يريد إحباط إقامة دولة فلسطينية يحتاج إلى دعم وتعزيز حماس، وهذا جزء من استراتيجيتنا لعزل الفلسطينيين في غزة عن الفلسطينيين في يهودا والسامرة (يقصد الضفة الغربية)». وأوضح نتنياهو عندما أعلن عن بدء العمل في عام 2019 لإضافة حاجز تحت الأرض أنه سيكلف الدولة في نهاية المطاف أكثر من 3(مليارات شيكل)، وبعد ذلك بعامين،