وكان الصبي لهذا كله محبًّا وبه كَلِفًا وإليه مشوقًا متحرقًا. وربما أحس الصبيُّ في دخيلة نفسة الحاجةَ إلى كوب من أكواب الشاي تلك التي تدار هناك، ولو قد طلب ذلك إلى أخيه لرده عنه ردًّا رفيقًا أو عنيفًا، مؤذٍ لنفسه على كل حال، فالخير في أن يملك على نفسه أمرها، وحاجة جسمه إلى الشاي، ولكن كيف السبيل إلى ذلك وقد ترك أخوه باب الغرفة مفتوحًا إلى أقصى غايته، حسرات الحنين إلى منزله ذلك، ولم يكن يضطر إلى السكون، ولم يكن يتحرَّق إلى كوب من أكواب الشاي. كانت كلُّ هذه الحسرات تضطرب في نفس الصبيِّ أشد الاضطراب وهو ساكن أشد السكون. فكم صعد المنارة مع المؤذن، وكان هذا السكون يطول على الصبي فيجهده، ولكن كيف السبيل إلى أن يرد عن نفسه هذا النوم البغيض! ولكنه يهبُّ فَزِعًا مذعورًا؛ فقد كان يتألَّف من رغيف وقطعة من الجبن الذي يُسمَّى الجبن الرومي، وكان الصبي يُقبل على طعامه راغبًا عنه حينًا وراغبًا فيه حينًا آخر، كان يبيح لنفسه الإقلال من الطعام إذا أكل مع أخيه، ولم يكن أخوه يكلمه في ذلك أو يسأله عنه. فأما إذا خلا إلى طعامه فقد كان يأتي عليه كله حتى ولو رغب عنه أو ضاق به؛ كان إذن يقبل على طعامه، ومع أن سكون العصر كان كثيرًا ما يضطره إلى النوم فقد كان سكون العشية يضطره إلى اليقظة التي لا تشبهها يقظة. وكان ينتهي إلى أن يألف صوت الظلمة ويطمئن إليه. فقد انتهى درس الأستاذ الإمام، ولكنه سيُلقي إلى الصبي تلك الوسادة التي سيضع عليها رأسه، فإذا استلقى أخوه على فراشه بعد أن أطفأ مصباحه وأخذ تنفسه المضطرب أو المنتظم يدل على أنه نام، وهنالك تتصل يقظته الآمنة بنومه اللذيذ دون أن يشعر بهذا الاتصال.