الشعور سيقوِّي قيمة الحياة ومتعتها في نظرنا، يجب علينا أن نعيش كل يوم ونحن نقدِّر تمام التقدير وندرك تمام الإدراك النِّعَم التي تحيط بنا، والتي غالباً ما تفقد قدسيَّتها عندما يمرُّ أمامنا الزمان في هذا المشهد الدائم الذي يمضي بأيَّامه وشهوره وأعوامه. بَيْدَ أنَّ أغلب الناس يريدون أن يعيشوا في عذاب وهم يشعرون بحقيقة الفناء الوشيك! إنَّ البطل المحكوم عليه في مختلف الأساطير كثيراً ما نراه في آخر لحظة يترقب حظاً سعيداً يُسعفه، لكنَّ الملاحَظ أننا في أغلب الأحيان نرى إحساسه بقيم الحياة كثيراً ما يتغيَّر، إنه يمُسي أكثر تقديراً لمعاني الكون ولأسراره الروحية الدائمة، وفي جُلِّ الحالات ترى أنَّ أولئك الذين يعيشون أو عاشوا في ظلال الموت، هم الذين يتذوَّقون لذائذ الظروف التي يحيونها! لكنَّ معظمنا - مع كلِّ ذلك - يأخذ الحياة على أنها منحةً دائمة. نحن نفهم أنه لابدَّ من يومٍ آتٍ لا محالة نُسْلِم فيه الروح، وعندما نكون في حالةٍ صحيةٍ جيِّدة، فإنَّ الموت عندئذُ يمسي أمراً غير واردٍ بتاتاً، بل إنَّه لا يخطر على بالنا إلا عابراً . وهكذا نسير في زحمة أشغالنا الزهيدة عالمين - ولكن بصعوبة - بموقفنا إنَّ هذا السُّبات نفسه هو الذين يهيمن علينا - فيما أعتقد - حتى فيما يتعلَّق باستعمال حواسِّنا وطاقاتنا . إنَّ الأصمَّ وحده هو الذي يقدِّر نعمة السمع؛ وكذا الكفيف وحده هو الذي يقدِّر ضروب السعادة التي تكمن في نعمة البصر. إنَّ هذه الملاحظة تنطبق عملياً على أولئك الذين فقدوا حاسَة البصر أو حاسَّة السمع في حياتهم المبكِّرة، لكنَّ الذين لم يسبق لهم أن اشتكوا من الحرمان ولم يسبق لهم أن فقدوا بصراً أو سمعاً؛ أولئك قليلاً ما يُحِسُّون بعَظَمة نعمة الاستفادة من هذه الحاسَّة المقدَّسة. إنَّ أبصار هؤلاء تقع على كثير من المناظر، كما أنَّ أسماعهم تتلقَّى مختلف الأصوات، بل ربَّما دون اكتراث ودون إمعان! إنها فحوى الكلمة التي تُرَدَّد : لا يعرف المرء مقدار النعمة إلا عندما تُسلَب منه، ولا يعرف مقدار عافيته إلا عندما يكون طريح الفراش! كثيراً ما فكرتُ في أنَّ هذا الإنسان -أي إنسان - لو أُصيبَ بفَقْد بصره أو فَقُد سمعه لبضعة أيام من البداية الأولى لحياته لَظَلَ يشعر طيلة حياته بأريج السعادة الذي يحفُّ به. إنَّ الظلام سيجعله -لا محالة-أكثر تقديراً للنور الذي يراه صباح مساء، وأن الصمت المُطبق سيعلِّمه - دون شك - متعة وَقُع الصوت على مسمعه! لقد كان يَلذُّ لي أحياناً أن أسأل رفاقي الذين يبصرون لأعرف عن بعض ما كانوا يرون، سألتُها ماذا رأت وماذا لاحظت؟ فكان جوابها بالحرف: «لا شيء يستحق الذكر»! ولو أنني لم أكن معتادة على مثل هذا الجواب لَدَاخلني الشك فيما سمعتُ. لقد اقتنعت منذ زمن بعيد أن هؤلاء الذين يبصرون لا يرون إلا قليلا! قلتُ في نفسي: كيف يكون من الممكن أن يتجوَّل المرء لمدة ساعة من الزمن بين منعطفات الغابة ولا يرى شيئاً يستحقُّ الذكر؟! أنا التي لا أستطيع أن أبصر شيئاً اكتشفتُ مئات الأشياء التي تتملَّك النفس من خلال اللمس العابر . أشعر -وأنا ألمس- بالتناسق اللطيف الذي أجده بين أوراق الشجر، أمرُّ بيدي لأتحسَّس هذا الأديم الناعم الذي يلفُّ بعض الأشجار الفتيَّة، بل حتى هذا اللِّحاء الأشعث الخشن الذي يكسو الصنوبر. وفي فصل الربيع أتلمَّس الغصون وفروع الشجر وكلّي أمل في البحث عن البراعم. عن الطلائع الأولى للطبيعة اليَقِظَة بعد سُباتها العميق في فصل الخريف. أحُّس بالبهجة والنعومة وأنا أربِّت على الزهور، هناك تظهر لي معجزة خالق الطبيعة في أحلى مظاهرها. ومن وقت لآخر -إذا ما أسعدني الحظ- أضع يدي بلطفٍ وتؤدة على شجرة صغيرة لأتحسَّس الرعشات المنعشة التي تنبعث من طائر وهو في أوج سروره، سأكون سعيدةً عندما أشعر -من خلال أصابعي المتفتِّحة- ببرودة المياه المتدفِّقة في الجداول. بالنسبة إليَّ فإنَّ فِراشاً ناعماً من أوراق الصنوبر المتناثرة، أَحُّب إليَّ من أروع بساطٍ حتى لو كان فارسياً! ومشاهدة تدرُّج الطبيعة من فصلٍ إلى فصل تُعَدُّ عندي رواية تمثيلية أخَّاذة غير ذات نهاية،