‎ مني والدي أن أضیف مھار ًة جديدة إلى مھاراتي، مھارة التعامل مع البحر والمشاركة في رحلات الغوص. ماأذكرهأ ّن للبحر رائح ًة وصوتاً. أما رائحته فھي قوية تملأ الأنفاس، وتب ُّث في النفس النشاط، وأما صوت البحر فما أجمله؛ وخاصة إن اختلطت أصوات أمواجه بصوت النوارس أصوات وروائح وذكريات جمیلة عندما كنا نلع ُب مع الأصدقاء ومع خیولنا على شاطئه الجمیل. ما لم أكن أعرفه أن البحر لیس فقط صوتاً ورائحة وذكريات طفولة، وآمال وآلام وقصص كثیرة عاشھا أھل دبي نتیجة تعاملھم المستمر مع البحر؛ قصص لم أكن أتخیّلھا حتى أمرني أبي بارتیاد البحر وتعل ُّم بعض وصل إلى ھذا المنصب بتجربته ا ل م ت ر ا ك م ة و م ع ر ف ت ه ا ل م ت و ا ر ث ة . ك ا ن ُي ل َّق ب ب ا س م " ا ل س ر د ا ل " . ‎و"السردال" في لغة أھل البحر ھو كبیرھم وأخبرھم بالبحر ومواسمه ورياحه ومواقیته؛ ‎ويح ّد ُد "السردال" بداية الموسم بنا ًء على حركة الأمواج، ويتعرّف على الاتجاھات بتتب ُّع مواقع النجوم. وللسردال قدرة على رسم خريطة لقاع البحر وما يوجد فیه؛ يمكننا أيضاً استخدام المبادئ نفسھا لتص ُّور قاع البحر والتع ُّرف على طبیعته. كان البحارة يربطون كتل ًة ثقیل ًة من الرصاص، وكان أبو جابر قادراً على معرفة مكوّنات القاع من خلال ما يعلَق منھا بكتلة الرصاص، كما كان قادراً على قیاس قوة الموج من خلال ‎تأثیره على حركة الحبل. ‎كان أھل دبي يغوصون في الصیف بشكل رئیسي حیث تكون المیاه دافئة، ‎المحار – الذي يضم اللؤلؤ الثمین – والذي يكون على أعماق متفاوتة وفي مناطق مختلفة. فإن الحرارة على سطح الماء تكون لاھبة، مما يصی ُب الكثی َر من البحارة بالجفاف بسبب قلّة المیاه التي يحملونھا. فكان الغوّاصون يستقون منھا المیاه أثناء رحلات وكان يعرف مواق َعھا أھ ُل الخبرة والتجربة. ‎القائد الإنسان لا بد أن تكون قدماه على الأرض، ‎والغوص البارد ھو الأصعب نتیجة برودة المیاه، حیث يختصر الغواصون وقت الغوص، ويكون البحر في حالة غیر مستقرة، ‎كان والدي يرسلني إلى أبو جابر لأتعلم منه عن البحر وأحواله وخیراته ومواسمه، ولكن أكثر ما تعلم ُت من رحلاتي معه ھو صعوبة الحیاة في البحر، لم ينظر للأمور من فوق لیستطیع تلخیصھا وتجريدھا واتخاذ قرارات بشأنھا. ويعايش حیاتھم، ‎تغییر حیاتھم للأفضل. وخلال تلك الرحلات كن ُت أساعد في عملیة التحضیر، كتحمیل القوارب بالمؤن، كان "السردال" يحدد المناطق التي ينتشر فیھا اللؤلؤ. وكان الغواص يقفز تحت الماء واضعاً عظمة سمك على أنفه لس ِّده، وحبلاً ُيربَط على عنقه، ويمسكه "السايب" أو الرجل الذي يسحبه إلى الأعلى. يملأ الغواص رئتیه بالھواء ويغوص في الأسفل، لا أحد ينبس بكلمة أعلى القارب، ولا ُيسمع إلا صوت تمايل القارب استجاب ًة لموج البحر. وما إن يش ّد الغواص الحب َل حتى يقوم "السايب" بسحبه إلى الأعلى بسرعة، وتعوزه الطاقة ‎للسباحة إلى سطح الماء ‎لم يكن مستغرباً وقوع الكثیر من الحوادث والوفیات المأساوية في رحلات الغوص. كانوا يصلّون على المیت ثم يلقونه في البحر. وفي أحیان أخرى، مما يسبب ألماً شديداً للمصاب إلى درجة تدفعه حیث يكون في الانتظار جیش من الأطفال والنساء الذين يستقبلون أھالیھم بكل فرح؛