تعتبر قضية التراث والهوية الوطنية واحدة من أهم الإشكالات في فكرنا العربي المعاصر، هذه الثنائية التي طالما أرّقت الآخر، محاولاً بشتى الوسائل طمسها وطمس كل ما يمت بصلة للحضارة العربية والاسلامية التي أرست قواعدها على أرض هذا الوطن. ولأنّ التراث هو الإرث الذي خلفه أسلافنا وهو "الشِّفْرَةُ" التي تتحدد من خلالها معالم هويتنا، فإنه يستدعي منا أن نبحث في العلاقة الجدلية بين التراث كمكوّن مادي أو معنوي، وبين الهوية كوعي بهذه المكونات. هذه الهوية التي أصبحت اليوم متشظية ومهدّدة بفعل ما يسمى بالعولمة الكاسحة للخصوصيات الثقافية والاجتماعية لمختلف الحضارات، والساعية لأن تجعل العالم كله في بوتقة واحدة، ومن خلال هذا البحث البسيط سنحاول أن نفتح الباب على عدة تساؤلات: ما هو التراث؟ ما هي الهوية؟ ماهية العلاقة بين التراث والهوية؟ وكيف يسهم الموروث التاريخي في الحفاظ على الهوية الوطنية؟ وماهي التحديات التي تواجه الهوية الوطنية في زمن العولمة والرقمنة؟ ومن أجل بلوغ هذه الغايات قسمت بحثي إلى قسمين رئيسيين: الهوية الوطنية والموروث التاريخي: حاولت التطرق فيه إلى تبيان العلاقة التي تجمع بين التراث التاريخي للوطن وللأمة، الهوية الوطنية وتحديات العولمة والرقمنة: حاولت فيه إظهار حالة العالم اليوم، في ظل العولمة. وباعتبارنا جزء من هذا العالم سنحاول التطرق إلى حالة الهوية الوطنية والخطر الذي يهددها. وختمت بحثي بخاتمة: تطرقت فيها لأهم النتائج المستخلصة، محاولا تقديم بعض الحلول من أجل الحفاظ على الهوية الوطنية وإرساء دعائمها في ظل المتغيرات التي يفرضها العالم من حولنا. أولاً: الهوية الوطنية والموروث التاريخي: قبل الدخول في كنه هذا الموضوع، الذي يتسم بتعدد المفاهيم ومرونتها، ارتأيت أن أقف عند مفهوم التراث والهوية، ومحاولة البحث في دلالاتهما ومعانيهما، من أجل كشف الحجب الدلالية عنهما، "التراث" في اللغة العربية مأخوذ من جذر "ورث"، وهي تدل في مجملها على معاني البقاء، وانتقال الملكية، ففي معجم لسان العرب نجد "ورث: الوارث: صفة من صفات الله عز وجل، وهو الباقي الدائم الذي يرث الخلائق (. وِرثاً، وراثا فلانا المال، ومنه وعنه: صار إليه ماله بعد موته فهو وارث (ج) ورث، والإرث: هو ما يتوارثه الآخر عن الأول من المال والعقار وغيرهما"[2]. ويُعرِّف مجمع اللغة العربية "التُّرَاثُ هو الإراث وهو الإرثُ وهو ما وُرِث. ورثَ فلاناً المال، أي صار إليه مالُه بعد موته. ويقال وَرِثَ المجدَ وغيرَه. ورِثَ أباه مالَه ومجدَهُ"[3] فالتراث من خلال هذه المعاجم هو ما يخلِّفه الميت لورثته من تركة، أو أن يكون هذا التراث معنوياً ﴿يرثني ويرث من آل يعقوب﴾ (مريم: 6) ويقصد بالتراث هنا تركة النبوة والفضيلة والمعرفة. و من هنا نستنتج أنّ التراث يعني انتقال الملكية (مادية/معنوية) من شخص إلى آخر، ويُضيف إليه جيل بعد جيل من خبرات حياته"[4]، وتأسيساً على ما تقدم يمكن أن نعرف التراث بأنه "هو الموروث الثقافي والاجتماعي والمادي، المكتوب والشفوي، الرسمي والشعبي، اللغوي وغير اللغوي، الذي وصل إلينا من الماضي البعيد والقريب. وهذا التعريف يحاول أن يراعي الشمولية في تحديد التراث، فهو يضم مقومات التراث جميعها، وأخيرا ما يتضمنه من تراث شعبي يتمثل في المكتوب والشفوي واللغوي وغير اللغوي"[5]. في مفهوم الهوية: واجتماعية، تمس عمق المجتمع، وجوهره. وعند البحث في أغلب المعاجم العربية القديمة لم نجد تعريفاً للهُوية، لأنّ كلمة الهوية هي "مصطلح حديث منسوبة الى "هو" تحديداً، وهي تعني ادراك تميز هو عن الآخر، "وفي المعجم الوجيز: الهوية تعني الذات، أما في معجم الوسيط فـ "الهُوِيَّةُ" هي "حقيقة الشّيء، أو الشّخص الّتي تميّزه عن غيره، وهي أيضا بطاقة يُثبت فيها اسم الشّخص، وجنسيته، ومولده، وعمله، وتسمّى البطاقة الشّخصية هوية أيضا"[8]. ومن هنا نستنج أن الهُوية هي كلمة حديثة في اللغة العربية، وهي اسم مصاغ انطلاقاً من الضمير المنفصل « هو» لتحدد بذلك السمات المميزة للأنا مقابل الآخر "هو"، فهي "الشفرة" الّتي يمكن الفرد عن طريقها أن يَعرف نفسه، وعن طريقها يُتعرَّف عليه باعتباره منتمياً إلى تلك الجماعة"[9]. ومن هنا نستطيع القول أنّ الهويّة عبارة عن مجموعة من الصفات المميزة و المتكاملة، والمتفاعلة فيما بينها لتعطي لشخص أو شعب معين، أو أمة معينة مميزات يعرف بها. وتنقسم الهوية إلى نوعين: هوية فردية: وهي التي تمثل المميزات والخصائص الجسدية التي تميز الإنسان من حيث كونه فرداً عن بقية الأفراد سواء داخل مجتمعه أو خارجه ولعل أبرز مثال على ذلك بصمات الأصابع، وخصائص الحمض النووي. علاقة الهوية بالتراث: من خلال التعرض للمفاهيم الدلالية لكل من الهوية والتراث فإن البحث في العلاقة بينهما هو بحث بين الخصوصية والمرجع، (كما أسلفنا الذكر) هذه الخصوصية التي تعبر عن هويتنا لم تنشأ من فراغ، وإنما هي نتاج تجربة بأفراحها وأتراحها عاشتها المجموعة، و اشتركت أفرادها في رسم صورها، ويترجم حاضرها، وتستلهم من خلاله مستقبلها. فالتراث ما هو إلاّ صورة حقيقية لماضي الأمة، وديوان مفاخرها وذكرياتها، وشعب واحد، وهوية واحدة. ومن ثمّ فإنّ الهوية هي نتاج لحركية التاريخ في المجتمع، تتغير وتتبدل وتتطور حسب وعي الجمعي للشعوب بهذا التاريخ. ونستطيع القول أنّ حجر الأساس في عملية التقدم الاجتماعي والحضاري لأيّة أمّة من الأمم مرهون بمدى وعيها بتاريخها وبتراثها الذي يمثل تجارب انسانية جاهزة، ورثتها عن أسلافها تنطلق منها نحو المستقبل، لأنّ ". المستقبل ما هو إلاّ الماضي، مرورًا بالحاضر، والوجودُ الشّخصي هو ثمرة لخبرات الماضي وتجاربه وأحداثه"[11]. فالتراث ليس هو "الماضي بكل ما حفل به من تطورات في المجالات جميعاً، وما شهده من أحداث تعاقبت عبر العصور، والمستقبل بكل احتمالاته. إنّه يمتد في حياتنا وينتقل معنا إلى المستقبل. فهو جزء منا لا نستطيع الفكاك منه. و بذلك يصبح سمةٌ أصيلة من سمات الهوية، و المنطلق الذي يحفزنا في بناء المستقبل. ولا تراث إذا لم يؤسس للهوية. ومكونان متكاملان من مكونات الشخصية الفردية والجماعية"[13]. كما نجد أن الهوية – في الحقيقة- ما هي إلا مجموع الصفات والخصائص والمبادئ التي توارثتها الأمة عن أسلافها عبر سيرورة واعية بها وبالتاريخ الذي جسدها وبالتراث الذي بقي شاهداً على ذكرياتها. الهوية الوطنية الواعية بالتراث: إنّ الباحث في مجال الهوية الوطنية كان لزاماً عليه البحث في تاريخ الجزائر الممتد لآلاف السنين (الجذور الأولى لتاريخ الجزائر 500. 000 سنة ق. م) وما تعاقب عليها من حضارات، فمن النومديين إلى الفينيقيين إلى الرومان، ثم الوندال فالبيزنطيين فالعرب ، والأتراك وانتهاء بالاحتلال الفرنسي، كل هذه الحضارات عمّرت بالجزائر، وحاولت أن تغرس ثقافاتها وأن تترك بصماتها في هوية الشعب الجزائري سلباً وإيجاباً، غير أنّ الاحتلال الفرنسي للجزائر منذ دخوله أرض الوطن حاول بشتى الطرق محو هوية الشعب الجزائري كاملة، وطمس معالمه التاريخية والثقافية. بيد أنّ "ظهور الوعي الوطني لدى فئات الشعب الجزائري منذ تأسيس الدولة الجزائرية الحديثة في عهد الأمير عبد القادر، وخوض حربٍ تحريريةٍ من أعتى الحروب، وأرست قواعدها على حب الوطن والاعتزاز به، وبالتاريخ الذي خلفه شهداؤنا الذي ضحو بالنفس والنفيس من أجل حرية البلد وكرامته، ومن أجل الحفاظ على مقوماته وركائزه الأساسية. فرغم جَبَرُوت الاستعمار وقوته العسكرية ومخططاته الفكرية الهادفة لطمس الهوية الجزائرية، لم يستطع النيل من هوية الشعب الجزائري الذي ظل متمسّكاً بهويته وبتراثه إلى أبعد الحدود، وقاوم شتى أنواع القهر والسلب والترغيب والترهيب وسياسات الاندماج و عوامل المسخ، لكن التاريخ ظل شاهداً على تمسك وتشبث المجتمع بكل مقوماته متحدياً بذلك سلطة الاستعمار، فالتاريخ يشهد على الحروب والمقاومات التي خاضعها الشعب ضد المستعمر، ليس بالسيف والبارود فقط بل بالفكر "فقد خاضت جمعية العلماء المسلمين بقيادة الشيخ عبد الحميد بن باديس بشن حرب لا هوادة فيها عن الطريق الصحافة ووسائل الإعلام والدروس في المساجد والمدارس والنوادي، والمظاهرات في الشوارع، وإصدار الفتاوى الدينية بقصد محاربة سياسة التجنيس والاندماج"[15]. وخير ما نستدل به هنا هي قصيدة الشيخ عبد الحميد بن باديس "شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب" التي نظمها ضد دعاة الادماج والتجنيس: شَعْـبُ الجـزائرِ مُـسْـلِـمٌ وَإلىَ الـعُـروبةِ يَـنتَـسِـبْ مَنْ قَــالَ حَـادَ عَنْ أصْلِـهِ أَوْ قَــالَ مَـاتَ فَقَدْ كَـذبْ فالحياد عن الأصل وعن المرجع يعتبر بمثابة موت لهوية الانسان، و محاولة قلع ثقافة المجتمع الجزائري من جذورها، وغرس ثقافة المستعمر الغاشم مكانها، وإضفاء الطابع الغربي الأوروبي ليحل محل التقاليد والأعراف التراثية الجزائرية، وذلك من خلال تسخير كل الوسائل، لتغيير الهوية الجزائرية وضربها في الصميم، ولعل الجهود التي بذلت في منطقة القبائل كانت أحسن مثال على استهداف الهوية الوطنية، إذ نجد المستعمر قد استغل عامل العرق واللهجات لضرب الهوية الوطنية في الصميم. إذ عمد إلى تدمير المساجد وهدم الزوايا، ففي عام: 1930م، كان عددها يبلغ 176 مسجد وزاوية، فأصبحت غداة الاستقلال في حدود نيف وسبعين زاوية فقط.