فكل عمل أريد به غير االله لم يكن الله وكل عمل لا يوافق شرع االله لم يكن الله بل لا يكون الله إلا ما جمع الوصفين : أن يكون الله وأن يكون موافقا لمحبة االله ورسوله وهو الواجب والمستحب كما قال تعالى [ ١١٠ الكهف ] : { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } . فلا بد من العمل الصالح وهو الواجب والمستحب ولا بد أن يكون خالصا لوجه االله تعالى كما قال تعالى [ ١١٢ البقرة ] : { بلى من أسلم وجهه الله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } . وقال النبي صلى االله عليه وسلم : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " وقال صلى االله عليه وسلم : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى االله ورسوله فهجرته إلى االله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " . وهذا الأصل هو أصل الدين وبحسب تحقيقه يكون تحقيق الدين وبه أرسل االله الرسل وأنزل الكتب وإليه دعا الرسول وعليه جاهد وبه أمر وفيه رغب وهو قطب الدين الذي تدور عليه رحاه . آخر : قال أبو بكر : يا رسول االله كيف ننجو منه وهو أخفى من دبيب النمل ؟ فقال النبي صلى االله عليه وسلم : " أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من دقه وجله قل : اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم " وكان عمر يقول في دعائه : ( اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا ) . وكثيرا ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق محبتها الله وعبوديتها له وإخلاص دينها له كما قال شداد بن أوس : يا نعايا العرب يا نعايا العرب إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية ، داود السجستاني : وما الشهوة الخفية ؟ قال : حب الرئاسة . وعن كعب بن مالك عن النبي صلى االله عليه وسلم أنه قال : " ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه " قال الترمذي : حديث حسن صحيح . فبين صلى االله عليه وسلم أن الحرص على المال والشرف في إفساد الدين لا ينقص عن إفساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم وذلك بيّن فإن الدين السليم لا يكون فيه هذا الحرص وذلك أن القلب إذا ذاق حلاوة عبوديته الله ومحبته له لم يكن شيء أحب إليه من ذلك حتى يقدمه عليه وبذلك يصرف عن أهل الإخلاص الله السوء والفحشاء كما قال تعالى [ ٢٤ يوسف ] : { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } . فإن المخلص الله ذاق من حلاوة عبوديته الله ما يمنعه عن عبوديته لغيره ومن حلاوة محبته الله ما يمنعه عن محبة غيره إذ ليس عند القلب السليم أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا أسر ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته الله ومحبته له وإخلاص الدين له وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى االله فيصير القلب منيبا إلى االله خائفا منه راغبا راهبا كما قال تعالى [ ٣٣ ق ] : { من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب } إذ المحب يخاف من زوال مطلوبه أو حصول مرغوبه فلا يكون عبد االله ومحبه إلا بين خوف ورجاء كما قال تعالى [ ٥٧ الإسراء ] : { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } . وإذا كان العبد مخلصا الله اجتباه ربه فأحيا قلبه واجتذبه إليه فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء ويخاف من حصول ضد ذلك بخلاف القلب الذي لم يخلص الله فإن فيه طلبا وإرادة وحبا مطلقا فيهوى ما يسنح له ويتشبث بما يهواه كالغصن أي نسيم مر به عطفه وأماله فتارة تجتذبه الصور المحرمة وغير المحرمة فيبقى أسيرا عبدا لمن لو اتخذه هو عبدا له لكان ذلك عيبا ونقصا وذما . وتارة يجتذبه الشرف والرئاسة فترضيه الكلمة وتغضبه الكلمة ويستعبده من يثني عليه ولو بالباطل ويعادي من يذمه ولو بالحق . وتارة يستعبده الدرهم والدينار وأمثال ذلك من الأمور التي تستعبد القلوب والقلوب تهواها فيتخذ إلها هواه ويتبع هواه بغير هدى من االله . ومن لم يكن خالصا الله عبدا له قد صار قلبه معبدا لربه وحده لا شريك له بحيث يكون االله أحب إليه من كل ما سواه ويكون ذليلا له خاضعا وإلا استعبدته الكائنات واستولت على قلبه الشياطين فكان من الغاوين إخوان الشياطين وصار فيه من السوء والفحشاء ما لا يعلمه إلا االله . وهذا أمر ضروري لا حيلة فيه . فالقلب إن لم يكن حنيفا مقبلا على االله معرضا عما سواه وإلا كان مشركا قال تعالى [ ٣٠-٣٢ الروم ] : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة االله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق االله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون * منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } . وقد جعل االله سبحانه إبراهيم وآل إبراهيم أئمة لهؤلاء الحنفاء المخلصين أهل محبة االله وعبادته وإخلاص الدين له كما جعل فرعون وآل فرعون أئمة المشركين المتبعين أهواءهم قال تعالى في إبراهيم [ ٧٢-٧٣ الأنبياء ] : { ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين * وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين } وقال في فرعون وقومه [ ٤١-٤٢ القصص ] : { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون * وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين } ولهذا يصير أتباع فرعون أولا إلى ألا يميزوا بين ما يحبه االله ويرضاه وبين ما قدر االله وقضاه بل ينظرون إلى المشيئة المطلقة الشاملة ثم في آخر الأمر لا يميزون بين الخالق والمخلوق بل يجعلون وجود هذا وجود هذا . ويقول محققوهم : الشريعة فيها طاعة ومعصية والحقيقة فيها معصية بلا طاعة والتحقيق ليس فيه طاعة ولا معصية . وهذا تحقيق مذهب فرعون وقومه الذين أنكروا الخالق وأنكروا تكليمه لعبده موسى وما أرسله به من الأمر والنهي . وأما إبراهيم وآل إبراهيم الحنفاء من الأنبياء والمؤمنين بهم فهم يعلمون أنه لا بد من الفرق بين الخالق والمخلوق ولا بد من الفرق بين الطاعة والمعصية وأن العبد كلما ازداد تحقيقا لهذا الفرق ازدادت محبته الله وعبوديته له وطاعته له وإعراضه عن عبادة غيره ومحبة غيره وطاعة غيره . وهؤلاء المشركون الضالون يسوون بين االله وبين خلقه والخليل يقول [ ٧٥-٧٧ الشعراء ] : { أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } ويتمسكون بالمتشابه من كلام المشايخ كما فعلت النصارى . مثال ذلك : اسم ( الفناء ) فإن الفناء ثلاثة أنواع : نوع للكاملين من الأنبياء والأولياء . ونوع للقاصدين من الأولياء والصالحين . ونوع للمنافقين الملحدين المشبهين . فأما الأول : فهو الفناء عن إرادة ما سوى االله ، يحب إلا االله ولا يعبد إلا إياه ولا يتوكل إلا عليه ولا يطلب من غيره وهو المعنى الذي يجب أن يقصد بقول الشيخ أبي يزيد حيث قال : ( أريد ألاّ أريد إلا ما يريد ) أي المراد المحبوب المرضي وهو المراد بالإرادة الدينية وكمال العبد ألا يريد ولا يحب ولا يرضى إلا ما أراده االله ورضيه وأحبه وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب ولا يحب إلا ما يحبه االله كالملائكة والأنبياء والصالحين وهذا معنى قولهم في قوله [ ٨٩ الشعراء ] : { إلا من أتى االله بقلب سليم } قالوا : هو السليم مما سوى االله أو مما سوى عبادة االله أو مما سوى إرادة االله أو مما سوى محبة االله فالمعنى واحد وهذا وأما النوع الثاني : فهو الفناء عن شهود السوى ، وهذا يحصل لكثير من السالكين فإنهم لفرط انجذاب قلوبهم إلى ذكر االله وعبادته ومحبته وضعف قلوبهم عن أن تشهد غير ما تعبد وترى غير ما تقصد لا يخطر بقلوبهم غير االله بل ولا يشعرون إلا به كما قيل في قوله تعالى [ ١٠ القصص ] : { وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها } قالوا فارغا من كل شيء إلا من ذكر موسى . وهذا كثيرا ما يعرض لمن دهمه أمر من الأمور : إما حب وإما خوف وإما رجاء يبقى قلبه منصرفا عن كل شيء إلا عما قد أحبه أو خافه أو طلبه بحيث يكون عند استغراقه في ذلك لا يشعر بغيره . فإذا قوي على صاحب الفناء هذا فإنه يغيب بموجوده عن وجوده وبمشهوده عن شهوده وبمذكوره عن ذكره وبمعروفه عن معرفته حتى يفنى من لم يكن وهي المخلوقات العبد فمن سواه ويبقى من لم يزل وهو الرب تعالى والمراد فناؤها في شهود العبد وذكره وفناؤه عن أن يدركها أو يشهدها وإذا قوي هذا ضعف المحب حتى يضطرب في تمييزه فقد يظن أنه هو محبوبه كما يذكر أن رجلا ألقى نفسه في اليم فألقى محبه نفسه خلفه فقال : أنا وقعت فما أوقعك خلفي ؟ قال : غبت بك عني فظننت أنك أني . وهذا الموضع زلت فيه أقوام وظنوا أنه اتحاد وأن المحب يتحد بالمحبوب حتى لا يكون بينهما فرق في نفس وجودهما وهذا غلط فإن الخالق لا يتحد به شيء أصلا بل لا يمكن يتحد شيء بشيء إلا إذا استحالا وفسدت حقيقة كل منهما وحصل من اتحادهما أمر ثالث لا هو هذا ولا هذا كما إذا اتحد الماء واللبن والماء والخمر ونحو ذلك ولكن يتحد المراد والمحبوب والمراد والمكروه ويتفقان في نوع الإرادة والكراهة فيحب هذا ما يحب هذا ويبغض هذا ما يبغض هذا ويرضى ما يرضى ويسخط ما يسخط ويكره ما يكره ويوالي من يوالي ويعادي من يعادي . وهذا الفناء كله فيه نقص . وأكابر الأولياء - كأبي بكر وعمر والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار - لم يقعوا في هذا الفناء فضلا عمن هو فوقهم من الأنبياء وإنما وقع شيء من هذا بعد الصحابة . وكذلك كل ما كان من هذا النمط مما فيه غيبة العقل وعدم التمييز لما يرد على القلب من أحوال الإيمان . فإن الصحابة رضي االله عنهم كانوا أكمل وأقوى وأثبت في الأحوال الإيمانية من أن تغيب عقولهم أو يحصل لهم