وتعكس القيم الأخلاقية في تمظهراتها حقائق أسمى تتصل لا فقط بما ينبغي وما لا ينبغي بل بما هو الأحسن كوناً وتحققاً في عالم الوجود ـ ولو الانساني ـ بمعنى من المعاني. أي ان ثمة تصورٌ بأن القيم الاخلاقية للعالِم ـ أي عالِم ـ قيمٌ تتصل بمرحلة بعدية ثانوية لمرحلة عالِميته وفكره وتأملاته، وينجم عن ذلك القول بأن إصلاح مناهجنا المعرفية وانماط تفكيرنا أمرٌ مرهون إلى حد معين بإصلاح اخلاقياتنا البحثية، فما لم نسع لاصلاح تلك الاخلاقيات فإن اصلاح معرفياتنا سيكون أمراً مشوباً بشيء من الخطر. فما لم نحز ـ وهو امرٌ ليس بهذه السهولة ـ على شخصية تتمتع بميزات اخلاقية تمس البحث العلمي فلن نقدر على تحصيل أكبر عدد من ضمانات الصحة والصواب في هذا البحث. وعندما يعنون هذا المقال بعنوان “أخلاقيات البحث العلمي” فإن في العنوان عدة اشارات مقصودة: ويفترض ان يتحلى بها كل باحث بعيداً عن توجهه وقناعاته واهتماماته. رية ظاهرة عامة وواسعة في زماننا وما قبل زماننا أيضاً، فهناك مؤلفات مستقلة ينسبها اصحابها الى انفسهم فيما ترجع هذه المؤلفات الى مؤلفين آخرين، ولو أنها عبارة عن اجزاء مقتطفة من كتب عدة جرت اضافة شكلية عليها لتغيير مظهرها الأولي، لكن ذلك لا يعني إتهام الكتّاب بعدم تقدير الملكيات الفكرية لمجرّد تشابه فكرتهم مع فكرة أخرى، وهو ما ربما يعده البعض اليوم بمثابة تجميع لا فائدة منه، ومن هنا يمكن أن يلاحظ على بعض حركات الترجمة التي تحصل سيما ما بين اللغة الفارسية والعربية، فيما الامر ليس كذلك، إن التسامح في نقل وفهم أفكار الآخرين له مردودات سلبية، فإن البحث الأمين يستدعي التعامل مع الفكرة دون نظر إلى حجم تأثيرها وشعبيتها اذا ما كان الهدف هو الحقيقة النظرية، وهذا معناه أن الموقف من شخص معين أو تيار معين أو فئة معينة لا ينبغي ان يكون اساساً في الحكم على فكره أو رأيه في قضية هنا أو هناك، فإن ذلك نوع من إقحام العناصر النفسية والذاتية في الجهد العلمي والتحقيقي، أو الحكم السلبي عليهم أو الايجابي بصورة مسبقة. واذا ابتعدنا عن كلمة صالح حتى ننىء بأنفسنا عن المفهوم النفسي والخلقي يمكن القول السلف المصيب والسلف غير المصيب، ونفس تلك الشخصية تصبح فيما بعد ـ لو تصدّت لتقديم شيء ثقافي ـ أحد الذين يمارسون الاستبداد والقمع… لان الاستبداد افضل وسيلة لتهدئتها نفسياً. ان هناك مشكلة ثنائية الطرف تعاني منها بعض الساحات الثقافيةٍ وهي مشكلة أهلية البحث، لان الخلل المنهجي أو ما يسمّى اليوم الخلل في العقل نفسه لا يمكن اصلاحه بترميم فوقاني للفكر مهما طالت مدة البحث ومهما عمّر الانسان عمره في الدراسة والتحقيق. لان كلامنا هنا يدور حول خصوصية من خصوصيات هذا التيار إلا وهي ان بعض روّاده وبعض المشتغلين فيه لم يهضموا جيداً اصول وموضوعات الفكر الديني واتسمت نتاجاتهم بشيء من التسرع، فكيف يحقّ لشخص ان يلغي كل نتاج علم اصول الفقه على صعيد مباحث الالفاظ (حتى لوكان رأيه صحيحاً) ما لم يكن انساناً هاضماً خبيراً بهذا العلم حتى يقف على مناهجه واساليبه في البحث وعلى تياراته ومدارسه و…؟! إن مجرّد قراءة كتاب أو كتابين لا يبرّر عادةً ـ على المستوى الاخلاقي العلمي وعلى المستوى المعرفي أيضاً ـ التصدّي لاتخاذ مواقف كبيرة من هذا القبيل، إن هذه اللاأكاديمية في البحث العلمي وهذه الارتجالية في استخلاص النتائج تجر على الجسم الثقافي العام الكثير من النتائج الضارّة، ولم يكن يحق له أن ينقد هذا العقل دون أن يدرسه ماراً بالمدارس الفقهية والكلامية والفلسفية وغيرها، ويضيف هؤلاء إن السير لا وفق المنهج المعهود في المدارس الدينية أفضى وما يزال إلى مخاطر عديدة وقد شاهدنا بأعيننا النتائج السلبية لهذا الأمر. وهذا المقدار مما تثيره المعاهد الدينية الرسمية يمكن الموافقة عليه، وأخذ الدارسون الرسميون ـ طبعاً نحن نتكلم عن البعض بالتأكيد والكلام ليس شاملاً أبداً ـ يتصوّرون أن كل من يكتب أو يتكلم في مجال المعرفة الدينية دون ان يكون متحركاً في إطار السلك الرسمي فهو معتدٍ ـ علمياً ـ ويتدخل فيما لا يعنيه وانه متأثر بالافكار الغربية أو أنه لا أصالة في فكره أو … وساد اعتقاد بلامشروعية التفكير أيُّ تفكير لا ينطلق من الخطوط والرسوم الكلاسيكية لتسلب بعد ذلك القيمة عنه والاحترام. وربما تطوّر الامر لدى البعض الى مستوى أعلى حين يضع اللباس الديني كجزءٍ مكوّن للمشروعية البحثية بحيث لا يحق لمن لا يضع هذا اللباس أن يتكلم باسم الدين والتدين مهما بلغ من العلم بل والايمان… أو انه لا يحق له ـ حتى لو كان ملبساً بلباس رجل الدين ـ البتّ في شيء والتصدّي له ما لم يصل الى سنّ معينة بحيث يمكن عدّه مخضرماً حينئذٍ. وانما نتكلم عن الحق المعرفي الذي ينتج امكانية احترام الطرف الآخر معرفياً، وهي طبقية يحتاج البحث حولها وحول مبرراتها العقلية والدينية الى مجال أوسع. وقد كثرت الافكار والآراء حول هذه الظاهرة، ودرسها الباحثون من زوايا متعدّدة، وليس هناك تيار ينادي بنظرة واحدة إلى العنف أي عدمت قسيمه الى عنف مشروع ومقونن وعنف غير مشروع وغير اخلاقي ولا قانوني، فمن ناحية نفسية وسلوكية هناك اشخاص يفكرون بطريقة عنيفة وهناك بعض آخر يفكر بهدوء وببرودة أعصاب، أي الشخصية ذات التفكير الهادىء… إن هذه الشخصية ليست أمراً ثابتاً أو من المفترض أن يتحلّى به جميع الناس، أي هل نتحدث عن ازمنة فنقول إن هذا العصر يتطلب نمطاً من التفكير أما ذاك فيتطلب نمطاً آخر؟ أم نجعل التوزيع قائماً على اساس تصنيفي بين الناس بحيث نتحدث عن شريحة يملكها نمط تفكير أو فئة فيما شريحة اخرى تحكمها طريقة أخرى؟… نجعل في شخصية كل انسان اكثر من شخصية دفعةً واحدة يستبدل إحداها بالاخرى عندما يتحقق موضوع كل طريقة وظرفها؟… أم نترك الامور على رسلها تتحكم فيها التنوّعات الطبيعية في شخصيات الناس التي تختلف باختلاف الوراثة والبيئة و…؟ بحسب العرض المتقدّم، ينفتح هذا الموضوع على اكثر من صورة وشكل، ب ـ البحث العلمي داخل الدائرة الاسلامية من المطلوب ان تحكمه حالة الهدوء والتفاهم والاستقرار، هذه القاعدة حسبما يفهم من النص القرآني لا يخرج عنها سوى في حالة الصراع السياسي المتمثل في مفهوم البغي الذي يستدعي اثارة الهيجان في الدائرة الاسلامية ككل، 6 ـ النظر بعين ناقدة للنتاج الشخصي / التواضع العلمي : ثمة قصص ومقولات مسجلة أو تتناقل شفاهاً أن بعض العلماء السابقين أوبعض المعاصرين يحجم عادةً عن نشر كتبه ومؤلفاته، إن الشعور الدائم بالنقد الذاتي ـ وكذلك تقبل النقد الموضوعي من طرف الآخرين ـ يشكل ضمانةً هامة لديمومة الرقي والارتفاع المعرفي، إن نقد الذات القائم على اعتقاد حقيقي مسبق بمكانتها الواقعية المحدودة في المعرفة، اما الاعتقاد بالخطأ في الذات وممارسة العصمة فيها فهو مفارقة تجر الكثير من السلبيات. وهذه المشكلة ـ التكبّر وخوف النقد وإعادة النظر ـ تظهر في كلمات الباحثين كثيراً وبأساليب متعدّدة أحدها تعقيد العبارات اللفظية ومحاولة ابهام الافكار على الآخرين (طبعاً ليس الامر على نحو الموجبة الكلية بالتأكيد)، سابقاً كان شعار العلمية ان تستخدم تعابير الفلسفة والاصول أما اليوم فتعابير جديدة مشكلة بعضها انها لم تدخل بصورة رسميّة المعاجم الجديدة الى حد بلغت فيه الحال ان كل كاتب صارت له مصطلحات خاصة.