كانت السلطات الهندية قد فرضت رسماً جمركياً على وارداتها من اللؤلؤ: عقوبة انضافت إلى منافسة اللؤلؤ الزراعي المتعاظمة. بخلاف دُبَي التي نححت في أن تصبح المرفأ الأكثر نشاطاً في الخليج على صعيد الاستيراد والتصدير، هو تجارة اللؤلؤ وكانت الهند أكبر زبائننا. كنا نسعى للتفاوض مع الحكومة الهندية بغية خفض ذلك الرسم. لذلك كان علينا أن نتعامل مع شركة الهند الشرقية. كنت سعيداً بمشاركة أخي هزّاع هذه الأوقات. عيَّنه شخبوط والياً يمثّله في غرب البلاد. كنا نقضي ساعات لا تُحصى في الصحراء، كنّا نحمل حسّ الشرف ذاته ونفْس مشاعر المودّة حيال أخينا شخبوط. وحافظنا على القسَم الذي أدّيناه في حضرة الوالدة. في 12 يناير ركبنا سفينة بخارية تعمل على خط دُبَي- كراتشي. بمزيج من الإثارة والخشية بدأتُ هذه الرحلة. لأنني لم أركب البحر إلاّ مرّات قليلة ولفترات قصيرة؛ وتالياً، كان ذلك يناسبني. لم أولد وفي فمي مِلعقة من ذهب وثيابي لم تكن من الحرير. ولا أحببت الأُبَهة قطّ ولطالما آثرتُ على ذهب القصور حميمية غرفة لا زُخرف فيها. غرفتي لا تزال بسيطة حتى اليوم. في التسعينيات، مالكاً لقصر بايون في ناحية آنبير سور واز الفرنسية. لم يكن شراء القصر على سبيل الأُبَّهة أبداً، شغفي بالسباق، وأن أذهب مرّة في السنة إلى معرض بورجيه للطيران. على أنني تخلّيت أخيراً عن هذا المكان من دون أن يفوتني إعطاء البلدة مبلغاًه لإنقاذ تجارة كانت آيلة للانقراض. في غضون تلك الرحلة البحرية إلى كراتشي انتهزتساعات الفراغ للتدرّب على المطالعة. في صغري لقّنتني والدتي سورة الفاتحة، وكان عمري ما بين 7 و9 سنوات. في القرآن الكريم اكتشفتُ الأبحدية. صلّى الله عليه وسلّم، حوالي العام 630 م، كان الذكر الحكيم هو أوّل ما قرأتُ. في شهر يناير ذاك من عام 1946 بلغتُ الثامنة والعشرين من العُمر ورأيت أن الوقت حان لإتقان هذا العلم على غرار شخبوط الذي كان يقرأ بسهولةِ الصحف العربية والإنجليزية. لقد أُتيح لهرّاع وشخبوط أن يدرسا مهارات الكتابة والقراءة على أيدي معلّمين مختصّين. لكن لم يُتح لي ذلك حينها نظراً لظروف تنقّلي التي مرّت بنا ميكراً، حيث ولِدتُ في قصر الحصن ونشأتُ في العين. في ما بعد شُغِفتُ بأشعار أبي الطيِب المتنبِّي. هو في نظري سيد الكلمة، لا بل هوالأعظم بينهم، ويتمتع بموهبة خارقة في وصف العواطف والفهم العميق للحياة. ويطيب لي أحياناً أن أردّدها. أعترف بذلك، فهو قادر على أن يمدح الأقوياء ويتقرِّب منهم، وكان بوسعه في الوقت نفسه أن يهجوهم أقذع هجاء. من ذلك على سبيل المثال قوله: ولولا فُضولُ الناس جنتُكَ مادِحاً بِما کنتُ في سِرِّي بهِ لكَ هاجيا فأصبحتَ مسروراً بما أنا مُنشِدٌ وإن كان بالإنشاد هجوكَ غاليا أكبر الظنّ أن موت المتنبي كان بسبب كبريائه المفرطة. عرض له جماعة في بادية السماوة فأراد أن يفرّ إلاّ أنه ذُكّربِشعرِه: الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ فرجع إليهم وقاتلهم حتى قُتِلَ. أنا وهزاع، أن نمكث ثماني وأربعين ساعة قبل متابعة السفر إلى نيودلهي وجهتنا النهائية. على قول الدليل، لم أجد صعوبة في تصديقه. ومئات الأصناف من الفاكهة، واللحوم، جميعها تحاذي منتوجات مُوَشَّاة وأشياء مبتذلة من كلّ نوع. وفيها شوارع مبلّطة. همست لأخي: «يوماً ما سوف نصنع ما هو أفضل من ذلك فِي بلادنا». إن شاء الله». عرفتُ تساقط المطر عندنا. ربما كان بمثل هذه الغزارة لكنه نادر جداً. كانت في انتظارنا طائرة ذات محرّكين تابعة للخطوط الجوية الإمبراطورية. فكرت في براعتها في الطيران، مع مراعاة الفارق، إذا كان طائر وزنه لا يتعدّى الكيلو الواحد يستطيع أن يطير، أعترف بذلك، ساعتين أو ثلاث ساعات؟ ما عدت أدري. كلّ ما أتذكره أنني كنت محشوراً في المقعد، في حجرة الركاب، أرى طرفاً منالسماء عبر كوَّة. لتهدئة مشاعري أغمضت عينيّ وسرح بي الخيال إلى العين حيث وجدتُني مستلقياً في ظلال النخيل أرتجف في مهبّ الريح. لقد وصلنا. انتشلني صوت هرّاع من حُلمي. حطّت الطائرة في مطار سافدار جونغ، على مسافة ساعة بالسيارة من نيودلهي. وما إن توقفت المراوح عن الدوران حتى التصق سُلّمان متحرَّ كان بهيكل الطائرة. تقدّم نحونا هنديّ مُلتحِ متوّج بعمامة. رئيس التشريفات، مرسيدس رائعة. بعد دقائق كنا على الطريق متجهين نحو مقرّ شركة الهند الشرقية. آنذاك كانت المملكة المتحدة تحكم القسم الأعظم من الهند حكماً مباشراً، وتمارس الرقابة على باقي البلاد عبر المعاهداتالمُبرمة مع المسؤولين المحليين. وفي تلك المرحلة أيضاً كان اسم شخصية خارقة على كلّ شفة ولسان: موهانداس غاندي، الملقّب بمهاتما: «الروح العظيمة». كان قد أسرّ إلي قائلاً إن المهاتما كان سجيناً وأطلق سراحه حديثاً بسبب صحته الواهية. لذلك لم يَتسنَّ لي أن ألتقيه. لشدّ ما كنت راغباً في لقائه. كان الطريق حتى مقرّ الشركة مزدحماً، و كان السّائقون يطلقون العنان لأبواق سيّاراتهم ويناورون بمهارة كي يتجنبوا في اللحظة الأخيرة راكبي الدرّاجات أو العربات التي تحرّها الثيران، لكننا وصلنا إلى وجهتنا سالمين. حصيلة إقامتنا في الهند لم تكن سارّة. ولا شيء ملموس. في الحقيقة لم يكن لديّ أي أمل بنجاح المهمة. منذ البداية كان الشيخ شخبوط قد نبّهني: البريطانيون یمكنهم أن يكونوا متشدّدین في موقفهم. كان على دراية كافية بهم هو الذي أمضى أيامه في التفاوض معهم. عندما كنا على متن السفينة البخارية التي تقلّنا إلى دُبَيفكرت في المهمة التي تنتظرني.