فَكُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَخْطُوَ بِقَدَمَيْه الحافيتين اللَّتَيْن أرهقهما السَّيْرُ دَائِمًا لَسَعَتْهُ الْأَرْض لسعاتٍ، السكون حَوْلَه عَمِيمٌ فَلَيْسَ هُنَاكَ مَنْ مَارٍّ سِوَاهُ فِي الشَّوَارِعِ الْمُتَّسِعَةِ وَالضَّيِّقَةِ مَا حَدا بِهِ إلَى التَّفْكِيرِ فِي عَدَمِ التَّجَوُّل كَثِيرًا لَيَعْرِض بِضَاعَتَه وتمتم لِنَفْسِهِ: -وَلِمَنْ سأبيعها؟ ‏حتى الْمَقَاهِي قَدْ خَلَتْ مِنْ روادها، كَمَا تَمَيَّزَ عِنْدَهُ أَيْضًا وَلَكِنْ لَيْسَ كَبَقِيَّة الصِّغَار، وَبِأَيِّ شَيْءٍ؟ فَهُوَ لَا يُعْرَفُ مِنْ أَمْرِ حَيَاتِه سِوَى أَنَّهُ يَمْلِكُ هَذِهِ الْقُرُوشُ الَّتِي يُتَاجِر بِهَا، حَتَّى إذَا جَاءَ اللَّيْلُ أَوَى إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ خَارِج الْمَدِينَةِ ‏حيثُ خُرُوقِه الْبَالِيَةِ، وَيُلْقِي بِجَسَدِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الْمُظْلِم فَلَا يَصْحُو إلَّا عِنْدَ الْفَجْرِ عَلَى أَصْوَاتِ العربات تَقْطَع ذَلِكَ الطَّرِيقَ الْبَعِيدِ، ويتغلَّب عَلَى خُمولِه رُوَيْدًا رُوَيْدًا. إلَّا هَذَا الْيَوْمَ عِنْدَمَا بَدَأَهُ أَحَسّ بِثِقَلٍ غَرِيبٍ يدْهَسُ نَفْسَهُ فَكَثِيرًا مَا عَرَفَ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْعِيدَ قَرِيبٌ وَ كَثِيرًا مَا رَأَى أَطْفَالًا قَد سَبَقُوا الْعِيد، وَالْبُيُوتُ قَد عَمّهَا الضَّجيجُ وَالْأَطْفَالُ . ‏أرجع إلَى مَكَانِي وَأَرْقُد. وَعَدَّ الْقُرُوشَ فَوَجَدَهَا ثَلَاثَةً وانْتابَتْهُ حَيْرَةً. مَاذَا تَكْفِي؟ قَطَعَةُ خُبْزٍ بِنِصْفِ قِرْشٍ. فواجَهَ ‏أحدَ أَصْحَابِهِ مِنْ الْبَاعَةِ فَهَمَسَ: -هه. ‏ولكنْ بَلَعَ رِيقَهُ وَسَكَت وباغَتَهُ صَاحِبُه وَهُمَا سائرانِ: ‏عيسى هَيَّا نَعُد! كَاد يَصِيحُ: -إلَى أَيْنَ ؟ إلَى السَّمَاءِ ؟ وَلَكِنَّه فَضْلٌ أنْ يتسائل مُتبالِهًا : -أَيْن ؟ -عِنْدَنَا . سَكَت وَعَاد (سَالِم) لِيُعِيد عَلَى مِسْمَعَه: -هَيَّا. يَا أَخِي وتفادى تَأَزَّمَ الْمَوْقِفُ بِأَنْ سَارَ مَعَهُ وانبثقت مِنْ فَمِهِ كَلِمَةٌ: -أَنَا مِسْكِينٌ. عِيد الْمَسَاكِين مِثْلُنَا؟ -وَأَنْت مِسْكِين؟ -وَمَنْ لِي؟ -لَك نَفْسُك. وَاسْتَمَرَّا فِي سَيْرِهِمَا حَتَّى تَرْكا البِنايات الْكَبِيرَة خَلْفَهُمَا، وَبَانَت أمَام عَيْنَيْهِمَا أَطْرافِ الْمَدينَةِ، ‏حيثُ تَقْبَعُ الأكواخُ وَسَط وَأَكْوَام مِن الْمُهْمَلَات وَبَقَايَا الْحَرْب الْمَاضِيَة. وَالْتَفَت إلَيْه سَالِمٌ قَائِلًا: -لَعَلّ وَالِدَتِي قَد طُبِخَت الطَّعَام وتنتظرني وَتَبِعَه عِيسَى سَاكِنًا وَسَارَا خِلَال الْمَسَارِب الَّتِي تُفْصَلُ الأكواخَ الْمُتَلَاصِقَةِ. وَنَادَوْا عَلَيْهِمَا فَلَمْ يرٌدَّا أحسَّا بِأَنَّهُمَا رَجُلَانِ قَدْ كَبِرا قَبْل أوانهما رَغْم أَنَّهُمَا لَمْ يتعديا ‏الثانية عَشَرَة مِنْ عُمْرِ كُلٍّ مِنْهُمَا. وَدَخَلَت إلَى أَنْف عِيسَى، فَحَاوَل أَن يُقَارِنُهَا بِمَا تَخَلَّلَ أَنْفَاسَه أَثْنَاءَ سَيرهِ فِي الشَّوَارِعِ الْوَاسِعَة، وَذِهْنُه مَرْكَزٌ فِي آلامِ قَدَمَيْه الحافيتين مِنْ جَرَّاءِ حَرَارَةِ الطَّرِيقِ. وَتَفَتَّحَت أَنْفَاسَه لرائحة الصَّحْن ‏الموضوع أمَامَه فَأَحَسّ بمذاق لَذِيذٌ لِمَا فِي فَمِهِ، فَأَسْرَعَت يَدُهُ فِي امتداداتها إلَى الصَّحْن، و حالَما أَوْشَكَ عَلَى الشَّبَعِ بَقِيَتْ فِي نَفْسِهِ غَصَّةٌ: -هَاه. مَا هُوَ فِي السَّمَاءِ هُنَا.