إلى لا مكان مخدوعون أناس بسطاء دفعوا عدة آلاف من الدولارات لقاء وعد غامض بالهجرة، ولكن النخاسين المعاصرين تركوهم وسط موج غاضب لا يرحم واكتشفت السلطات الإيطالية سفينتهم بعد أن تحوّلت إلى نعش سابح. قبل ذلك حملت إحدى سفن النخاسة مواطنين عربا هاربين من عسف العراق وأنزلتهم في جزيرة صخرية غير مأهولة، بدعوى أن هذه بقعة من شاطئ اليونان، وظلت المجموعة تعاني من الموت عطشا حتى اكتشفتهم بالمصادفة إحدى طائرات الدوريات اليونانية. كما دأب إخوتنا من المغرب العربي على محاولة عبور المضيق الضيق الذي يفصلهم عن الشاطئ الإسباني، والحلم الأوروبي العسير المنال. الرحلة نفسها التي عبرها طارق بن زياد ، يعبرونها الآن جوعا وغرقا . ولا يقتصر الأمر على شواطئ أوروبا القريبة منا، ولكن سفن النحاسين تحمل العرب المخدوعين، وتذهب بعيدا لتضيع بالقرب من شواطئ أستراليا، وفي خضم بحر الصين، والمحيط الهندي الذي أصبح يشهد أحفاد السندبار وهم ضائعون يبحثون عن مأوى وسط خريطة الوهم، بل إن إسرائيل نفسها شهدت من يحاول اللجوء إليها بأي وضع و مقابل أي ثمن. مشهد القوارب العربية الضالة في عرض البحر يذكرنا بما حدث بعد انتهاء حرب فيتنام، حين طفا فوق الموج كل من يبحث عن مأوى، أصبحنا نعيش وسط عالم عربي طارد ، يدفع بأبنائه قسرا إلى أنياب الغربة والحياة الهامشية والموت في الصقيع، لا يقتصر الأمر على بلد معين، ولا على نظام سياسي بعينه ولكن العرب أصبحوا هاربين من كل البلدان ومن مختلف أنواع الأنظمة، يسلكون كل السبل سواء أكانت قانونية أم غير قانونية؛ لعبور الحدود من ذلك الوطن الذي كان يُعتقد أنّه يمتد منا من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، فإذا به أضيق من سمّ الخياط ، وسمّ الخياط هو باب من أبواب القدس القديمة لم يكن يعبره الجمل إلا إذا أنزلوا كل ما عليه من أحمال . وهكذا بات على العربي المعاصر أن يترك خلفه كل شيء. وأن يذهب أعزل إلا من ثيابه وقومه إلى عالم آخر لا تحكمه هذه النظم. فقد كنا نعتقد أن عالمنا العربي تحكمه أنظمة متباينة ومختلفة بعضها عن بعض، فإذا بها متحدة ضد شيء واحد هو نحن، وفي الوقت الذي تهب فيه ريح التغيير على كل مكان في العالم، وتتساقط فيه الأنظمة التقليدية التي لم تعد تناسب العصر، تغرق فيه بعض الأنظمة العربية في جمودها، وترفض التنازل عن أي جزء من " حقها الإلهي" في الإمساك بمصائر العباد. لقد هبت على العالم ثلاث موجات من رياح الديمقراطية لم تصبنا منها هبة نسيم ، واحدة وسواء أكان الحاكم العربي تحت الحصار أم خارج الحصار فهو يقوم بالتصرفات نفسها، ويجيد إخراج كل أنواع المسرحيات دون أن يكفّ عن التبجح بأنه يملك أفضل نظام ديمقراطي في هذه المنطقة. إن من يقرأ تقرير التنمية العربية الأخير سوف تفزعه حقيقة أننا أقل دول العالم في ممارسة حقوقها السياسية وأننا أقل حتى من إفريقيا التي يُضرب بها المثل في التخلّف والبدائية. إنّ الحصار والعقاب الجماعي لا يعاني منهما فقط الفلسطينيون، ويكفي أن تشاهد بعض أجهزة الأمن العربية وهي تحاصر جموع المتظاهرين وهم يهوون عليهم بالهراوات، ويقذفونهم بالغازات المسيلة للدموع حتى تدرك أن هذا العالم العربي الذي يتحول بالتدريج إلى حفرية تاريخية يدفعنا جميعا إلى البحث عن متنفس، هؤلاء الذين يهددوننا من خارج الحدود، أم أنهم هؤلاء الذين يواصلون قمعنا داخلها ؟ ربما كانت الهجرة هي الحل الوحيد . ألم تكن أرض الله واسعة؟ كما تساءل القرآن الكريم.