قول الله تعالى:(مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) سورة غافر:18. يقول شيخ المعتزلة القاضي عبد الجبار الهمذاني:"إن الله تعالى بين في هذه الآية أن الظالم لا يشفع له النبي صلى الله عليه وسلم، [20]) لأن الظلم إذا أطلق انصرف إلى الكفر، إذ أنَّ الكفر أعظم الظلم، [21]) ويقال أية سورة غافر مثلها تماما في المعنى أية الشعراء، فقال تعالى فيها حاكيًا عن أهل النار قولهم:(فما لنـا من شافعين ولا صديق حميم فلو أنّ لنا كرّةً فنكون من المؤمنين) الشعراء الآيات:100-102. فعلى ذلك فالشفاعة المنفية عن الكفار، وصاحب الكبيرة ليس بكافر، فيبطل الاستدلال بالآية. وبيان ذلك: يقول الحافظ البيهقي:الظالمـون هاهنا هم الكافرون، ويشهد لذلك مفتتح الآية إذ هي في ذكر الكافرين. [22]) ولا شفيع يشفع لهم عند ربهم فيطاع فيما شفع، ويُجاب فيما سأل". [23]) ولا شفيع يشفع فيهم، بل قد تقطعت بهم الأسباب من كل خير". [24]) يقول القرطبي:"وإنما المراد بها الكافرون دون المؤمنين، بدليل الأخبار الواردة في ذلك، فقال في صفة الكافرين:(فما تنفعهم شفاعة الشافعين) وقال:(ولا يشفعون إلا لمن ارتضى)، وقال:(ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له)، ويقول المفسر الألوسي:إن الكاملين في الظلم؛ [28])في تفسير(ما للظالمين) يعني الكافرين. وذهب الإمام الباقلاني إلى أن الظلم الوارد في قول الله تعالى:(ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع). ثم قال:(ولهذا لما نزل قوله تعالى:(الذين امنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) سورة الأنعام: آية 82. [31]) ويدخل في مجموع هذا الكلام الكفار، لأن بعضا منه هم الكفار، وإن لم يفد الاستغراق؛ وعندنا أن بعض الموصوفين بهذه الصفة ليس لهم شفيع، وهم الكافرون؛ وإذا فعلى كلا الاحتمالين فليس في الآية دلالة على نفي الشفاعة لأصحاب الكبائر. [32]) يقول القرطبي:"هذه الآيات عامة في كل ظالم، والعموم لا صيغة له فلا تعم هذه الآيات كل من يعمل سوءا وكل نفس، بدليل الأخبار الواردة في ذلك، ونحن إن قلنا بعموم العذاب لكل ظالم عاص فلا نقول إنهم مخلدون فيها، قلنا:لم يقل لمن لا يرضى وإنما قال:(لمن ارتضى) ومن ارتضاه الله للشفاعة هم الموحدون، بدليل قوله:(لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا)". [33]) ثالثاً:إنَّ الله تعالى نفى في الآية شفيعاً يطاع، ألا ترى أنك إذا قلت: ما عندي كتاب يباع، لا يلزم منه نفي الكتاب. لأنه ليبس في الوجود أحد أعلى حالا ًمن الله تعالى حتى يقال: إن الله يطيعه. [34]) وإذا فنفي الشفيع المطاع لا يقتضي نفي الشفاعة وعليه فلا دلالة في الآية على نفي الشفاعة لأصحاب الكبائر؛ وبذلك يبطل استدلال المعتزلة بهذه الآية. الدليل الثالث: يقول القاضي عبد الجبار:الآية تدل على أن الشفاعة لا تكون إلا لمن كانت طرائقه مرضية، وأن الكافر والفاسق ليسا من أهلها. [35]) يقول فخر الدين الرازي:"احتجت المعتزلة بقوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى) على أن الشفاعة في الآخرة لا تكون لأهل الكبائر لأنه لا يقال في أهل الكبائر إن الله يرتضيهم". [36]) المناقشة: يقول ابن عباس والضحاك:(إلا لمن ارتضى) أي:لمن قال لا إله إلا الله([37]). قال تعالى:(فأغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم) سورة غافر:آية7. وكذا شفاعة الأنبياء عليهم السلام إنما عي لأهل التوبة دون أهل الكبائر. قلنا: عندكم يجب على الله تعالى قبول التوبة، فإذا قبل الله توبة المذنب، ولا إلى الاستغفار. وأيضاً: فقد أجمع أهل التفسير على أن المراد بقوله تعالى:(فاغفر للذين تابوا) من الشرك (واتبعوا سبيلك) سبيل المؤمنين سألوا الله أن يغفر لهم ما دون الشرك من ذنوبهم، كما قال تعالى:(ويغفر ما دون ذلك لمن يشاءُ) سورة النساء:آية 48. [38]) وعلى ذلك، وعليه فيبطل استدلالكم بالآية. وتقييدها يكون بالآيات التي تثبتها بشروط، وهذا لا إشكال فيه، يقول ابن الوزير اليماني:إنه لابد من حمل الآيات المطلقة على المقيدة والعامة على الخاصة، ([39]) ويقول:"قوله تعالى:(من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلّة ولا شفاعة)البقرة:254, فأطلق نفي الخلّة والشّفاعة في هذه الآية عن كلّ أحد, وقال تعالى:(ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون)الأنبياء:28, [40]) قال شيخ الإسلام ابن تيمية جوابا على من أنكر الشفاعة لأهل الكبائر بناء على الآيات السالفة:"وَجَوَابُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ هَذَا يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ:أَحَدُهُمَا:أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ الْمُشْرِكِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي نَعْتِهِمْ :(مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)، (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ)، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ)، (حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) فَهَؤُلَاءِ نُفِيَ عَنْهُمْ نَفْعُ شَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا. فمحمول على الكافرين المستحلين لما يأتونه، دون العصاة من المؤمنين، ومن أذنب ذنبا من المسلمين، ومع قيام الدليل المخصص لها يمتنع القول بتعميمها". [42]) ويقول العلامة الشنقيطي في تفسيره قوله تعالى:(واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون) سورة البقرة:48. والسنة، فنص على عدم الشفاعة للكفار بقوله:(وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى) سورة الأنبياء:28، وقال:(فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين) سورة المدثر:48، إلى غير ذلك من الآيات". [43]) وبيان ذلك أن الله تعالى وعدهم ذلك الفضل فقال تعالى:(يوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله) والله تعالى لا يخلف وعده، فإنما يشفع إلى الله تعالى عندكم من أن يخلف وعده، أو في من لم يعده شيئا أن يتفضل عليه به، فأما إذا كان الوعد بالتفضل سابقا فلا وجه لهذا. [44]) الدليل الرابع: قال تعالى:(أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار). يقول القاضي عبد الجبار:"الآية تدل على أن من أخبر اله تعالى أنه يعذبه لا يخرج من النار، فيجب ذلك فيهم. ويدل أيضاً:على أنه صلى الله عليه وسلم لا يشفع لهم؛ [45]) أفمن وجبت عليه كلمة العذاب في سابق علم ربك يا محمد بكفره. [46]) وبكلمة العذاب:هي قوله تعالى لإبليس:(لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) سورة ص:58. [47]) وإذا كانت الآية في الكافر، فلا دلالة فيها على نفي الشفاعة عن صاحب الكبيرة، لأنه ليس ممن حقت عليه كلمة العذاب، وقوله تعالى:(إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) سورة الزمر:53. وأن محمد رسول الله حرم الله عليه النار)([48]). [49]) وغيرها من النصوص الدالة على الوعيد بالمغفرة لما مات لا يشرك بالله شيئاً. وعليه فيبطل الاستدلال بها على نفي الشفاعة لصاحب الكبيرة. وعلى التسليم بأن هذه الآية في أهل الكبائر، وبدون مشيئة الله وإذنه؛ بل لا يشفع إلا لمن ارتضى الله وأذن بالشفاعة له، وصاحب الكبيرة ممن ارتضى الله أن يشفع له؛ يقال للمعتزلة:إن قول الله تعالى:(فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل(. وقوله عز وجل:(فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين وما أضلنا إلا المجرمون فما لنا من شافعين ولا صديق حميم(وقوله عز وجل وقد أخبر أن الملائكة قالت لأهل الكفر:)ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين( هذه كلها أخلاق الكفار فقال الله عز وجل:(فما تنفعهم شفاعة الشافعين) فدل على أن لا بد من شفاعة لغيرهم وهم أهل التوحيد خاصة. ([50]) ثانياً: الأدلة العقلية: الدليل الأول: قول القاضي عبد الجبار:"لقد دلت الدلائل على أن العقوبة تستحق على طريق الدوام، هذا الدليل باطل لما يلي:- أولاً: أن الأدلة الدالة على دوام العقوبة عامة، وأدلة إثبات الشفاعة لأهل الكبائر خاصة، ثانياً: هذه الشبهة تبني على القول بتخليد الفاسق في النار، يقول القاضي عبد الجبار:"أليس أن الأمة اتفقت على قولهم: اللهم اجعلنا من أهل الشفاعة، وذلك خلف". ويقول فخر الدين الرازي:"واستدلت المعتزلة على إنكار الشفاعة لأهل الكبائر بوجوه. ويقولون في جملة أدعيتهم:(واجعلنا من أهل شفاعته) فلو كان المستحق للشفاعة هو الذي خرج من الدنيا مصراً على الكبائر؛ [54]) المناقشة: ويرغب إلى الله في أن تناله لاعتقاده أنه غير سالم من الذنوب، ولا قائم بكل ما افترض الله عليه، بل كل واحد معترف على نفسه بالنقص، فهو لذلك يخاف العقاب ويرجو النجاة. [55]). [56]) فاندفع السؤال". الدليل الثالث: لأنا قد دللنا على أن إثابة من لا يستحق الثواب قبيح، [58]) المناقشة: إنَّ قول القاضي عبد الجبار المعتزلي:(وإن شفع فيه لم يجز) ينبني على أن المكلف لا يدخل الجنة بفضل الله ورحمته، وإنما يدخلها بعمله، وإذا لم يعمل لم يجز أن يدخله الله إياها، وهذا القول باطل لما يلي:- فيبطله قوله تعالى:(الذي أحلنا دار المقام من فضله) سورة فاطر:آية 35. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته). [59]) فإذاً فإن دخول الإنسان الجنة بفضل الله ورحمته، [60]) وإنما العمل سبب في تفضيل الله على عبده بإدخاله الجن. فلاستحالة موجب فوقه يوجب عليه شيئاً. وإذا ثبت أن الإنسان يدخل الجنة بفضل الله ورحمته، وأنه سبحانه الفعال لما يريد، فلا يوجب عليه أحد شيئاً، فلا مانع أن يشفع الله نبيه في من شاء من عباده من أهل التوحيد المرتكبين للكبائر لتظاهر الأحاديث بثبوت الشفاعة لهم، وإذا ثبت أن الله يشفع نبيه فيهم؛ بطل قولكم، (وإن لم يشفع فيه لم يجز). فلا مكان لهذا الاحتمال. وعليه فتبطل شبهتكم هذا. ويصير من أهل الفسوق والعصيان". [61]) يقول الباقلاني: والجواب على هذه الشبهة من وجهين:- لأنَّ الشفاعة لا تنال بالذنوب، وإنما تنال بالإيمان دون الذنوب، وهذا مثل أن يشفعوا زيداً في ذنب صديقه في دار الدنيا إلى من ملك إسقاط ذلك، وإنما ناله بالصداقة المتقدمة لا نفس الذنب. ونأمره أيضاً بالطاعة حتى ينال بذلك شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الزيادة له من البر والنعيم، الثاني:أنا نعارضكم بمثل قولكم، فنقول لكم ما تقولون فيمن سمع قوله تعالى:(إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) سورة البقرة:أية 222. فحلف ليفعلن فعلاً يجب عليه فيه التوبة والاستغفار.