ما من عامل يعملُ في هذه الحياة إلا وهو يطلُبُ في عمله الشرفَ الذي يتصوَّره،يقتُل القاتلُ وفي اعتقاده أن الشرفَ في أن ينتقمَ لنفسِه أو عِرضه بإراقة هذه الكمية من الدمِ، ولا يبالي أن يسميَه القانونُ بعد ذلك مجرمًا؛ لأن البيئة التي يعيش فيها لا توافقُ على هذه التسمية، وهي في نظره أعدلُ من القانون حُكمًا،يفسُقُ الفاسقُ وفي اعتقاده أنه قد نفض عن نفسِه بعملِه هذا غبارَ الخمولِ والبَلَهِ الذي يُظلِّلُ الأعِفَّاءَ والمُستقيمين، وأنه استطاع أن يعمل عملاً لا يُقدِم عليه إلا كلُّ ذي حِذْقٍ وبراعةٍ وشجاعة وإقدامٍ. وفي اعتقاد كلٍّ منهم أن الشرفَ كلَّ الشرف في المال، وإن كان السبيلُ إليه دنيئًا وسافلاً، وأن للذَّهب رنينًا تخفِتُ بجانب صوته أصواتُ المعترِضين والناقدين شيئًا فشيئًا، ثم تنقطعُ حتى لا يُسمَع بجانبه صوتٌ سواه.هكذا يتصور الأَدْنِياءُ أنهم شُرَفاء، وهكذا يطلبون الشَّرفَ ويُخطِئون مكانه، وما أفسدَ عليهم تصوُّرَهم إلا الذين أحاطوا بهم من سُجَرائهم وخُلَطائهم وذوي جامعتهم، أولئك الذين يحتقرونَ المَوْتُور حتى يغسلَ الدَّمَ بالدمِ، وينعَوْنَ على الرجلِ المستقيمِ العفيف بلاهَتَه وخمولَه حتى يفجُرَ ويستهتِرَ، وأولئك الذين يسمُّون الفقيرَ سافلاً، وطيِّبَ القلب مغفَّلاً،لا تعجَبْ إن سمعتَ أن جماعةَ الأغنياء الجهلاء تنعكس في أدمغتِهم صورُ الحقائق حتى تلبَسَ في نظرهم ثوبًا غيرَ ثوبها، فإن بين الخاصةِ الذين نعتدُّ بعقولهم، ونمتدحُ أفهامَهم ومداركهم - مَن لا يُفرِّق بين الرَّذيلة والفضيلة،لولا فسادُ التصور ما افتخر قائدُ الجيش بأنه قتل مائةَ ألفٍ من النفوسِ البشرية في حربٍ لا يُدافِعُ فيها عن فضيلة، ولا يؤيد بها حقًّا من الحقوق الشرعية، ولولا فسادُ التصوُّرِ ما وضَع المؤرِّخونَ اسمَ ذلك السَّفَّاح بجانب أسماءِ العلماء والحُكماء والأطبَّاء خَدَمةِ الإنسانية، وأصحاب الأيادي البيضاء عليها في سطرٍ واحدٍ من صحيفة واحدة، ولولا فسادُ التصوُّرِ ما جلَس القاضي المرتشي فوق كرسيِّ القضاء يَفتِلُ شاربَيْه، وينظُرُ نظراتِ الاحتقار والازدراء إلى المتَّهم الواقف بين يديه موقفَ الضَّراعة والذُّل، ولا ذنبَ له إلا أنه جاع وضاقت به مذاهبُ العيش فسرَق درهمًا، ولولاه لَمَا توهَّم اللصُّ الكبيرُ أنه أشرفُ من هذا اللص الصغير، لوقَفَا معًا في موقف واحدٍ أمام قاضٍ عادلٍ يحكُمُ بإدانة الأول؛ لأنه سرَق مختارًا ليُرفِّه عيشه، لأنه سرق مضطرًّا لينقذَ حياته من براثنِ الموت.فمن شاء أن يهذِّبَ أخلاقَ الناس، يوافِهِ ما يُريدُ من التهذيب والتقويم.ليس من الرأيِ أن يشير المعلِّمُ على المتعلِّم أن يجعلَ هذا المجتمع الإنساني ميزانًا يزِنُ به أعماله، أو مِرآة يرى فيها حسناتِه وسيئاتِه؛ فالمجتمعُ الإنساني مصابٌ بالسُّقم في فهمِه، فلا عبرة بحُكمِه،ليس من الرأي أن يُرشِدَ المعلِّمُ المتعلِّمَ إلى أن يطلُبَ في حياته الشَّرف الاعتباريَّ؛ فليس كلُّ ما يعتبرُه الناسُ شرفًا هو في الحقيقة كذلك.ألا تراهم يعدونَ أشرَفَ الشَّرَفِ أن يتناول الرجلُ من الملك قطعةً من الفضة أو الذهب يحلِّي بها صدره، وربما كانوا يعلَمونَ أنه ابتاعها بماله كما تبتاع المرأةُ من الصائغ حِلْيَتَها؟!لا شرَفَ إلا الشرفُ الحقيقي،فالعالِم شريف؛ ويصقُلُ مِرآتَه، ويَقِيهم عاديةَ الفَناء، والمُحسِن الذي يضع الإحسانَ في موضعه شريفٌ؛ والحاكم العادل شريف؛ لأنه رسولُ العناية الإلهية إلى المظلومين، يمنَعُهم أن يبغيَ عليهم الظالمون، وصاحب الأخلاقِ الكريمة شريف؛ لأنه يُؤثِّرُ بكرَمِ أخلاقه وجمال صفاتِه في عُشَرائِه وخُلَطائه، ويُلقي عليهم بالقدوةِ الصالحة أفضلَ درسٍ في الأخلاق والآداب، والصانع والزارع والتاجر أشرافٌ متى كانوا أمناءَ مستقيمين؛ لأنهم هم الذينَ يحمِلون على عواتقِهم هذا المجتمعَ البشري، حذرًا عليه من التهافتِ والسقوط. فإن لم تبلُغْ غايتَه، فإن لم يكن هذا ولا ذاك،