كان عالَمًا متداعيًا قد شارف النهاية … خلاصة ما يقال فيه إنه عالَم فقد العقيدة كما فقد النظام … وتجزي الظلم، وتختار الأصلح الأكمل من جميع الأمور … وتفصل بين البغاة والأبرياء، وتحرس الطريق، بيزنطة قد خرجت من الدين إلى الجدل العقيم الذي أصبح بعد ذلك علمًا عليها، وتضاءلت سطوتها في البر والبحر حتى طمع فيها من كان يحتمي بجوارها … وفارس قد سخر فيها المجوس من دين المجوس … وكمنت حول عرشها كوامن الغِيلَة، وبواعث الفتن، وبين التوحيد الذي هو ضرب من عبادة الأوثان … ثم هي بعد هذا التشويه في الدين، ليست بذات رسالة في الدنيا ولا بذات طور من أطوار التاريخ … فليس لها عمل باق في سجل الأعمال الباقيات. عالم يتطلع إلى حال غير حاله … عالم يتهيأ للتبديل أو للهدم ثم للبناء. أمَّة أمَّة ليست بذات دولة، في أيديها تجارة العالمين كلها … ثم علموا أنهم مالكون لزمامهم، يرضون فتتصل الأرزاق بين المشرق والمغرب، وبين المغرب والمشرق، ويغضبون فتبور التجارة وينضب المورد وتكسد الأسواق. وإذا سارت القوافل من اليمن إلى الشام أو من بحر القلزم إلى بحر الروم، فهي في جيرة الأعراب من كلتا الطريقين. أمَّة تيقظت لوجودها، وفارس تطغى على شرق البلاد وعلى جنوبها … يزيد الأمة يقظة وانتباهًا لوجودها … وخطر من داخلها، يدفع بها إلى الزوال أو إلى استكمال النقص المستشري في حياتها … وعصبة واحدة من سادة القوم تجتمع في أيديها ثروة المدينة … حالة لا استقرار فيها … فمن هنا الترف، والقمار، وتسخير الأقوياء للضعفاء … والحسرة، والشك في صلاح الأمور … وليس بالشك الذي يستجم ويستكين فحيثما اجتمع أناس من أولي الرأي يذكرون العقيدة وطمأنينة الضمير، اجتمع أناس بنخلة لإحياء عيد العُزَّى، يا قوم التمسوا لكم دينًا غير هذا الدين الذي أنتم عليه» … ثم تفرقوا، فمنهم من تنصر، ويلقي إليه بالبشارة. ووازع من السلطان، وقال فيه: «ما أحب أن يكون لي بحلف حضرته في دار ابن جدعان حمر النعم. حالة لا تستقر، ولا تزال في طلب الاستقرار … حالة تنذر بالزوال، وقلَّما تزول أمة يقظى في أوان انتباهها … فتلك إذن حالة للتبديل والتجديد. قبيلة وقبيلة في تلك الأمَّة، في تلك المدينة … لها شعبتان: إحداهما من أصحاب الترف والطمع واستبقاء ما هو قائم، كما كان قائمًا على هواها … والأخرى من أصحاب التقوى والسماحة والتوسط بين مقام القوي الذي يجور ويطغى ويستبقي أداة الجور والطغيان، ويصبر على الكريهة، ويأكل من فضلات يديه. بيت وبيت من تلك الشعبة الوسطى له كرم النسب العريق، وإن لم يكن معدودًا من أثرياء القبيلة القرشية في ذلك الأوان … ورأس هذا البيت — عبد المطلب — رجل قوي الخلق، حكيم مع قوة طبعه وشدة إيمانه، خليق أن يُنجب العَقِب الذي يبشر بدعوة وينضح عن دين. نَذَرَ لئن عاش له عشرة بنين لينحرن أحدهم عند الكعبة … ثم أحله قومه وأحلته العرَّافة من نذره، قالوا: «عشر من الإبل. واضربوا على الفتى وعليها بالقداح … فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم. » فما زالوا يزيدون حتى بلغت الإبل مائة وخرجت القداح عليها فهتفت قريش بعيد المطلب: «لقد رضي ربك … فأطلق فتاك. » وكان خليقًا بمن يريد أن يتحلل ويتعلل أن يقبل ولا حرج عليه، قال له مقال السياسي المحرج المداور بالكلام: «أراك تسأل عن إبلك ولا تسأل عن الكعبة. فأجابه عبد المطلب جواب الحكيم المؤمن: «أما الإبل فأنا ربُّها، وأما البيت فله ربٌّ يحميه!» فكان إيمانه إيمانًا كفئًا لدهاء السياسة، ومن كان له هذا الخلق، فليس من عجب أن ينجب نبيًّا في زمان يستدعي الأنبياء، ومكان مهيأ لهم دون كل مكان … بل العجب أن يكون الأمر غير ما كان. أب وإذا كان عبد المطلب جدًّا صالحًا لنبي كريم، فابنه عبد الله نعم الأب لذلك النبي الكريم … أُرْسِلت إلى هذه الدنيا لتعقب فيها نبيًّا وهي لا تراه، ثم تعود. فهو الفتى الذي اسمه عبد الله والذي اختير للفداء، فجاشت له شفقة قومه حتى تركه لهم القدر إلى حين. وهو الفتى الذي تحدثت الفتيات في الخدور بوسامته وحيائه، وهو الفتى الذي أقام مع عروسه ثلاثة أيام، ثم سافر ليتَّجر فإذا هي السفرة التي لا يؤوب منها الذاهبون، ومدينة تتطلع إلى نبي، وقبيلة وبيت وأبوان أصلح ما يكونون لإنجاب ذلك النبي. ثم ها هو ذا رجل لا يشركه رجل آخر في صفاته ومقدماته، ولا يدانيه رجل آخر في مناقبه الفضلى التي هيَّأته لتلك الرسالة الروحية المأمولة في المدينة … وفي الجزيرة، وفي العالم بأسره. نبيل عريق النسب، وليس بالوضيع الخامل، فيصغر قدره في أمَّة الأنساب والأحساب … فقير … وليس بالغني المترف، فيطغيه بأس النبلاء والأغنياء، ويغلق قلبه ما يغلق القلوب من جشع القوة واليسار. يتيم بين رحماء … فليس هو بالمدلل الذي يقتل فيه التدليل ملكة الجد والإرادة والاستقلال، وليس هو بالمهجور المنبوذ الذي تقتل فيه القسوة روح الأمل وعزة النفس وسليقة الطموح، وفضيلة العطف على الآخرين. خبير بكل ما يختبره العرب من ضروب العيش في البادية والحاضرة، تربى في الصحراء وألِف المدينة، واشتغل بالتجارة، واقترب من السراة ولم يبتعد من الفقراء. فهو خلاصة الكفاية العربية في خير ما تكون عليه الكفاية العربية … وهو على صلة بالدنيا التي أحاطت بقومه … فلا هو يجهلها فيغفل عنها، أصلح رجل من أصلح بيت في أصلح زمان لرسالة النجاة المرقوبة، ذلك محمد بن عبد الله عليه السلام … قد ظهر والمدينة مهيأة لظهوره؛ لأنها محتاجة إليه، والدنيا مهيأة لظهوره؛ لأنها محتاجة إليه، وماذا من علامات الرسالة أصدق من هذه العلامة؟ … وماذا من تدبير المقادير أصدق من هذا التدبير؟ … وماذا من أساطير المخترعين للأساطير أعجب من هذا الواقع، ومن هذا التوفيق؟ … علامات الرسالة الصادقة هي عقيدة تحتاج إليها الأمة، وهي أسباب تمهد لظهورها،