الأسماء هي الأشياء: سردية الطوفان فما لا تسميه الكلمات يبقى محتجبا عن مدركاتنا حتى تشيّده اللغة. وسواء أكان هذا أم ذاك، وبه نموت ونميت. والصراع بين الخطابات المتعارضة هو صراعٌ على امتلاك الواقع وتشييده، هل كانت الأعمال الأدبية والفنية والفلسفية التي استبطنت خطاب المركزية الأوروبية الاستعمارية هي من أسّس لذلك الخطاب ثم بثّه في الثقافة العامة، أم أنها كانت متأثرة - بوعي أو بغير وعي - بالثقافة السائدة وبيئتها الموضوعية؟ أحسب أنها كانت نتاج التفاعل بين هذا وذاك، فاستمدّت من الواقع الاستعماري وأمدّته بأشكال الثقافة العليا: الأدب والفن والفكر. كل هذا يؤكد أهمية التدافع بين السرديات ودورها الحاسم في المعترك السياسي. ويسيطر على وسائط التأثير وإدارة العقول. فترى بعض أبنائه يتبنّون خطاب الخصم بدوافع وأسباب مختلفة، منها الاستلاب والتغريب والهزيمة النفسية وكراهية الذات الجمعية، ومنها الخصومات الأيديولوجية والانقسامات العقدية، ومنها كذلك الانقسامات العرقية والطائفية داخل الوطن الواحد، تحت وطأة الظروف القاهرة، إلى نزعات الاعتذار والدفاع والتسويغ، وأعلم أن هذه إشكاليةٌ ذاتُ أبعادٍ متشابكةٍ متضاربةٍ أحيانا، لا يستقيم معها الاختزال والتبسيط والتفاصل الحدّي بين الكل أو لا شيء، فمن طبيعة الخطاب اليومي بين الناس في سياق التفاعل الاجتماعي أن يراعي المتحدث في أسلوبه وانتقاءاته أحوال المتلقي، الذي يمثّل ركنا أساسا لا يكتمل الخطاب وعملية التواصل بدونه: السن والجنس، كما يراعي سياق الخطاب وظرفه، إلى جانب أدوات التواصل والإبلاغ. وكل ذلك يقتضي ميزانا دقيقا لا يتوفّر عليه الجميع. وقد شهدنا نماذج منه في حوارات الإعلام الغربي حول مجازر غزّة، تصلح أن تكون مادّة بحثية في العلوم اللسانية الاجتماعية السياسية. ولا يذكر الهجوم حتى يتبعَه بسيلٍ من الأوصاف القبيحة وأحكام الإدانة. ويصوّر تلك الفظائع المزعومة التي ثبت بطلانها، ألحّ عليه الإعلامي المضيف، وحاصره به ولم يسمح له أن يتحوّل عنه إلى سياقه التاريخي الممتدّ على مدى مائة عام من المظالم والجرائم التي أنزلها المشروع الصهيوني الاستعماري الإحلالي بالشعب الفلسطيني. فقد وقع في الفخّ الذي نصبه له الإعلامي الصهيوني. فإذا اشتدّ الضيف في معارضة هذا المنطق، تساءل المضيف: أما وقد أقررْتَ أنه فعل إرهابي وأن فاعله حركة إرهابية، أما وقد سدّت إسرائيل الطرق كلها إلا طريق الاندثار، فليس غير المقاومة وحصار الحصار! من وعد بلفور، إلى تمكين الانتداب البريطاني للحركة الصهيونية في فلسطين، وقمع الحركة الوطنية الفلسطينية في مقاومة المشروع الفلسطيني الاستعماري، إلى اغتصاب الوطن الفلسطيني عام 1948 وما صاحبه من المجازر والتهجير القسري والإحلال والتنظيف العرقي، مع التنكيل بأشكاله المختلفة، والفصل العنصري، فلينطلق السؤال من محدّدات الشرعية الدولية الظالمة أصلا، والتي قرّرتها نفس القوى الاستعمارية التي أنشأت إسرائيل ومكّنت لها، بدلا من شرعية الحقّ المهدور والحلم الفلسطيني الممتد على كامل التراب الفلسطيني. - ماذا تريد إسرائيل؟ أما الاعتراف بوجودها على نحو ثمانين بالمئة من الوطن الفلسطيني التاريخي، تمويها على إخراجها من مشهد التسوية النهائية. بقي الاحتلال جاثما على صدور الناس، حتى في تحرّكاته الشخصية، إلا أن يشكوهم إلى الله وإلى الأمم المتحدة التي لا تملك بدورها من أمرها شيئا إلا ما تقرّره أميركا في مجلس الأمن، ثم يتوسّل إلى المجتمع الدولي أن يوفر الحماية للفلسطينيين الذين يتعرّضون للقتل في كل يوم، إلا أن "أوسلو" حرّرته من مسؤولياته القانونية الدولية بوصفه قوة احتلال. بقي الاحتلال وتعاظمت شراسته، إلا أن "أوسلو" حرّرته من مسؤولياته القانونية الدولية بوصفه قوة احتلال. ولا دولة واحدة ثنائية القومية. لم يبق إلا أن يختفي الشعب الفلسطيني على نحو ما، بالإبادة الجمعية والحلّ النهائي Final Solution أو بالتهجير الجمعي إلى أوطان بديلة! فإن تعذّر ذلك، فلا أكثر من إدارات محلية لجيوب سكانية لا تواصل جغرافياً بينها، من دون أن تكون لها سيادة على الأرض والمعابر، وعلى أن تبقى مواردها واقتصادها واحتياجاتها الحيوية رهينة السيطرة الإسرائيلية، فتمنع متى شاءت وكيفما شاءت! فماذا يتبقّى للشعب الفلسطيني غير المقاومة بكل أشكالها، وهو ما تقرّه الشرعية الدولية للشعوب الواقعة تحت الاحتلال! ولكن العملية السياسية قد حصلت بكل تنازلاتها الفادحة من عرّابي أوسلو، فما الذي تريده إسرائيل أكثر من ذلك؟ لا يجد الإعلامي المتصهين إلا أن يعود إلى إدانة الإرهاب الذي لا يسوّغه عنده شيء، فإذا كان الاحتلال مستمرّا، وكانت مقاومته حقّا شرعيا، ومع ذلك توصَم بالإرهاب في حالتنا، فكل مقاومة إرهابٌ وتخريبٌ مهما تكن توجّهاتها العقدية والسياسية، ولكن حتى الزيتون والليمون والتفاح تتعرّض للقطع والتجريف والمصادرة من دون رادع. هذا هو الخيار الذي يفرضه علينا العدو فما هي إلا الحرية أو الموت، إذ هذه هي الخيارات التي فرضتها علينا إسرائيل. ثم على أمن العالم بأسره. وهذا معنى قول القائل المتعقّل المتبصّر في الغرب نفسه لحكوماته: أنقذوا إسرائيل من نفسها، وإن كانت تحمل قدرا من التعاطف مع حقوق الشعب الفلسطيني. طالما أن التنازلات المخجلة، لا تأتي إلا بالمزيد من العذاب والظلم. نعم. هذا هو الخيار الذي يفرضه علينا العدو.