ما أشبة المستبد في نسبته إلى رعيته بالوصي الخائن القوي! يتصرف في أموال الأيتام وأنفسهم كما يهوى ما داموا ضعافا قاصرين؛ كذلك ليس من غرض المستبد ان تتنوّر الرعية بالعلم. أن لا استعباد ولا اعتساف إلا ما دامت الرعية حمقاء تخبط في ظلامة جهل وتيه عماء، فلو كان المستبد طيرا لكان خفاشا يصطاد هوام عوام في ظلام الجهل، ولو كان وحشا لكان ابن آوى يتلقف دواجن الحواضر في غشاء الليل، لكنه هو الإنسان يصيد عالمه جاهله. في النفوس حرارة وفي العلم قيسة من نور الله، العلم نور والظلم ظلام، ومن طبيعة النور تبديد الظلام، والمتأمل في حالة كل اللسان وأكثرها هزل وهنيان يضيع به الزمان، لا يخاف علم اللغة إذا لم يكن وراء اللسان حكمة حماس تعقد الألوية، تلك العلوم التي بعضها يقوم يف أو سحر بيان يحل عقد الجيوش؛ وأخذ منهم الغرور، فصاروا لا يرون علما غير علمهم، فحينئذ يأمن المستبد منهم كما يؤمن شر السكران إذا خمر. لأن أهلها يكونون مسالمين صغار النفوس، يشتريها المستبد بقليل من المال والإعزاز، لأن أكثرهم مبتلون بإيثار النفس، ودار الكتاب اللبناني، 2011 م، وتعرف الإنسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها، وكيف الطلب، وكيف النوال، وكيف الحفظ. وأخوف ما يخاف المستبد من أصحاب هذه العلوم، لمندفعين منهم لتعليم الناس بالخطابة أو الكتابة وهم المعبر عنهم فـي القرآن بالصالحين يفيترون ماذة الصلاح والإصلاح بكثرة التعبد كما حولوا معنى مادة الفساد والإفساد: من تخريب نظام الله إلى التشويش على المستبدين. والخلاصة: أن المستبد يخاف من هؤلاء العاملين الراشدين المرشدين، لا من العلماء المنافقين أو الذين حفر رؤوسهم محفوظات كثيرة كأنها مكتبات مقفلة. لأن للعلم سلطانا أقوى من كل سلطان، فلا بد للمستبد من أن يستحقر نفسه كلما وقعت عينه على من هو أرقى منه علماء ولذلك لا يحب المستبد أن يرى وجه عالم عاقل يفوق عليه فكراً، فإذا اضطر لمثل الطبيب والمهندس يختار الغبي المتصاغر المتملق. المتملقون"، بل في غالب الناس، ويجتهد المستبد في إطفاء نورها، ومن هم العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، كما أنهم هم الذين متى علموا قالوا، ومتى قالوا العوام هم قوة المستبد وقوته. بهم عليهم يصول ويطول؛ يأسرهم فيتهللون لشوكته؛ ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم؛ ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته؛ وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريم؛ ويسوقهم إلى خطر الموت، فإذا تفع الجهل وتنور العقل زال الخوف، كما قيل: عاقل لا يخدم غير نفسه، ورئيس عادل يخشى الانتقام، وحينئذ تنال الأمة حياة سية هنية، لأنه على الدوام ملحوظا بالبغضاء، محاطاً خطار، غير أمين على رياسته، بل وعلى حياته طرفة عين؛ ولأنه لا يرى قط أمامه من شده فيما يجهل؛ لا بد أن يهابه، فيضطرب -- باله، فيتشوش فكره، ويختل رأيه، فلا يهتدي على الصواب، فإن رأه متصلبا فيما يراه فلا يسعه إلا تأييده راشذا كان أو غبيا، وكل مستشار غيره يدعى أنه غير هياب فهو كذاب؛ والقول الحق: إن الصدق لا يدخل قصور الملوك؛ بناء عليه؛ لا يستفيد المستبد قط من راي غيره، وكفى بذلك انتقاما منه على استعباده الناس وقد خلقهم رتهم أحرارا. إن خوف المستبد من نقمة رعيته أكثر من خوفهم من باسه؛ وخوفهم ناشئ عن جهل؛ وخوفهم عن توقم التخاذل فقط؛ وخوفه على كل شيء تحت سماء ملكه، وخوفهم على حياة تعيسة فقير وحتى ومن هواجسه وخيالاته. وأكثر ما تُختم حياة المستبد بالجنون التام. وقلت: إنه يخاف من حاشيته؛ لأن أكثر ما يبطش بالمستبدين حواشيهم؛ لأن هؤلاء أشقى خلق الله حياة، يرتكبون كل جريمة وفظيعة لحساب المستبد الذي يجعلهم يمسون ويصبحون مخبولين مصروعين، يجهدون الفكر في استطلاع ما يريد منهم فعله بدون أن يطلب أو يصرح. الأنبياء والأولياء؟ وما هؤلاء إلا أشقياء؛ ولا يدعي ذلك إلا دجال، ولا يظن صدقه إلا مغفل، لما كانت أكثر الديانات مؤسسة على مبدأي الخير والشر كالنور والظلام، والشمس وزحل، حقل والشيطان، وأضر الجهل هو الخوف، والأقلام الشكاكين، والإنسان يقرب من الكمال في نسبة ابتعاده عن الخوف، وهكذا إذا زاد علم أفراد الزعية بأن المستبد امرق عاجز مثلهم، ويقول أهل النظر: إن خير ما يستدل به على درجة استبداد الحكومات هو تغاليها في شنان الملوك، وعظمة الحفلات، ومراسيم التشريفات، وعلائم الأبهة، ونحو ذلك من التمويهات التي يسترهب بها الملوك رعاياهم عوضا عن العقل والمفاداة، وهذه التمويهات يلجأ إليها المستبد كما يلجأ قليل العز للتكبر، وقليل العلم للتصوف، وقليل الصدق وقليل المال لزينة اللباس. ويقولون: إنه كذلك يستدل على عراقة الأمة في الاستعباد أو الحرية باستنطاق لغتها؛ هل هي قليلة ألفاظ التعظيم كالعربية مثلاً؟ أم هي غنية في عبارات الخضوع كالفارسية، وكتلك اللغة التي ليس فيها بين المتخاطبين أنا وأنت، بل سيدي وعبدكم؟! فكل إدارة مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور العلم، وحصر الرعية في حالك الجهل. والعلماء الحكماء الذين ينبتون أحيانا في مضايق صخور الاستبداد يسعون جهدهم في تنوير أفكار الناس، والغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم وينكلون بهم، وهذا سبب أن كل الأنبياء العظام – عليهم الصلاة والسلام وأكثر العلماء الأعلام والأدباء والنبلاء تقلبوا في البلاد وكفى شاهذا أن أول كلمة أنزلت من القرآن هي لأمر بالقراءة أمرا مكررا، علمه به ما لم يعلم. وبذلك انتشر العلم في سائر الأمم أخذا على المسلمين! ولكن قاتل الله الاستبداد الذي هان بالعلم حتى جعله كالسلعة يعطي ويمنح للأميين، ولا يجرؤ أحد على الاعتراض، أجل، الله الاستبداد الذي رجع بالأمة إلى الأمية، فالتقى آخرها بأولها، ولا حول ولا قوة إلا الحرية أفضل من الحياة، وأن يعرفوا النفس وعزها، والحقوق وكيف تحفظ قال المدققون: إن أخوف ما يخافه المستبدون الغربيون من العلم أن يعرف الناس حقيقة أن والظلم وكيف يرفع، والإنسانية وما هي وظائفها، والرحمة وما لذاتها. كأن العلم نار وأجسامهم من بارود. المستبدون يخافون من العلم حتى من علم الناس معنى كلمة "لا إله إلا الله"،