أهَيِّئ في نفسي بِناء قصة أُديرُها على فتىً كما أحَبَّ. كلاهما قد درس وتخرَّج في ثلاثة معاهد: المدرسة، وهو من شبابه كالماء يغلي، ومن أناقته بحيث لم يبْقَ إلا أن تَلْحَقَه تاءُ التأنيث، وقد تشعَّبتْ به فنون هذه المدنية، فرفع الله يده عن قلبه لا يُبالي في أيّ أوْديتها هلَكَ، وقد ألِفَتْه الطرق حتى لو تكلَّمتْ لقالت: هذا ضرْبٌ عجيبٌ من عربات الكنس…! وللفتاة تبرُّجٌ وتهتك، يعبثُ بها العبثُ نفسه، وقد أخرجتْها فنونُ هذا التأنث الأوربي القائم على فلسفة الغريزة، وما يسمّونه (الأدب المكشوف) ولكن إلى نظرات الرجال، وتظهرُ حين تظهر، ولكن بتلوين مرآتها مما يُعْجِبُ وما لا يُعجب. إذ كان مِن وَضْع الوالدين. فأنت بعد أن تُقيِّدَ رذائلك وضراوتِك وشرَّك وحيوانيتك _ أنت من بعد هذا حرٌّ ما وسعتْكَ الأرضُ والسماء والفكرُ؛ لأنك من بعد هذا مكمِّلٌ للإنسانيَّة، مستقيمٌ على طريقتها. ولكن هبْ حماراً تفلْسَفَ وأراد أن يكون حرّاً بعقله الحماري، أي تقرير المذهب الفلسفي الحماريّ في الأدب؛ فهذا إنما يبتغي إطلاقَ حريته، أي تسليطَ حِماريَّتِه الكاملة على كل ما يتصل به من الوجود. وتمضي قصَّتي في أساليبَ مختلفة تمْتَحِنُ بها فنونُ هذه الفتاة شهوات هذا الفتى، وما ذلك من فضيلة ولا امتناع، وقوَّة الصبر، وأن هذه التي تحمل جنينها تسعةَ أشهرٍ في جوفها، ليكون لوقوعها وتحقُّقها مثل الميلاد المُفرح. ولكنَّ الميلادَ في قصتي لا يكون لرذيلة هذه الفتاة، أي الاتصال بمصدر الخلق، أي كلُّ فضائل العقيدة والدين، حتَّى تتحوَّلَ المرأةُ تحوُّلَ الأرض من فصلها المقشعرِّ المجدب، ونزلَ بها همٌّ، ويَخْلِبُها الشابُّ خلابةَ رُعُونته وحبِّه ولسانه، فيعطيها الألفاظَ كلَّها فارغةً من المعاني، ويقرُّ بالزواج وهو منطوٍ على الطَّلاق بعد ساعة، فإذا أوشكت الفتاة أن تُصْرعَ تلك الصرعة دوَّى في الجوّ صوتُ المؤذن: الله أكبر. وتتصلُ بهذا القلب رُوحانيةُ الكلمة، فتقعُ الحياةُ السماويةُ في الحياة الأرضية، وتنتبه العذراء إلى أن الله يشْهَدُ عارَها، ويَفْجؤها أنها مُقْدمةٌ على أن تُفْسِدَ من نفسها ما لا يُصلحه المستحيلُ فضلاً عن الممكن، وترنو بعين الفتاة الطاهرة من نفسها إلى جسمِ بغيٍّ ليستْ هي تلك التي هي، وتنظر بعين الزوجة من صاحبها إلى فاسق ليس هو ذاك الذي هو، ويصرُخُ الطفلُ المسكينُ صرختَه في أذنها قبل أن يُولد ويُلقى في الشارع…! الله أكبر! صوتٌ رهيبٌ ليس من لغة صاحبها، ولا من صوته ولا من خسَّتِه، مُجلْجِلٌ كالرعد، من اليقظة إلى المنام: سمعتْ صوتَ السلسلة وقعْقَعتَها تُلوى وتُشدُّ عليها، كانت طهارتُها تختنقُ فنفذتْ إليها النَّسمات، وطارتْ الحمامة حين دعاها صوتُ الجو بعد أن كانت أسفَّتْ حين دعاها صوتُ الأرض، لأنَّ الطبيعةَ التفتتْ فيها لفتةً أخرى. ويُكرِّرُ المؤذِّنُ في ختامِ أذانه: الله أكبرُ الله أكبر! فإذا… ولم أدرِ كيف يكون جوابُ إذا… ونِمْتُ… ورأيتُ في نومي أنِّي أدخل المسجدَ لصلاة العيد وهو يعُجُّ بتكبير المصلين: الله أكبر الله أكبر! ولهم هديرٌ كهدير البحر في تلاطُمِه، تجدُ الصفَّ منهم على استوائه كما تجد السطرَ في الكتاب: ممدوداً محتبكاً ينتظمه وضعٌ واحد، وأراهم تتابعوا صفّاً وراء صف، لا في الأعلى ولا في الأسفل. وقد نفحَ منه ريح المسك، فكأنما هو يُطوى طيّاً، وأنا أعجبُ للرجل ضاقَ ولم أضيِّق عليه، وأين ذهبَ نصفُه الضخم وقد كان بعضه على بعضه زِيَماً على زِيَم(2)، وامتلاءً على امتلاء. وجعلتُ أحدسُ عليه ظني، فوقع في نفسي أنه ملَكٌ من ملائكة الله قد تمثَّل في الصورة الآدمية؛ وضجَّ الناس: الله أكبرُ الله أكبر! في صوتٍ تقشعرُّ منه جلود الذين يخشونَ ربهم، غيرَ أنَّ الناسَ مما ألِفوا الكلمةَ ومما جهلوا من معناها _ لا يسمعونها إلا كما يسمعون الكلام. أما الذي إلى جانبي فكان ينتفضُ لها انتفاضةً رجَّتْنِي معه رجّاً، إذ كنت ملتصقاً به مُناكِباً له، فكلُّ ما فيه يرتجُّ ويهتزّ، ورأيتُ صاحبي يذهل عن نفسه، ويتلألأُ على وجهِه نورٌ لكل تكبيرةٍ، كأنَّ هناك مصباحاً لا يزال ينطفئ ويشتعل، فقطعتُ الرأيَ أنه من الملائكة. ثم أقيمتْ الصلاةُ وكبَّر أهل المسجد، وكنت قرأتُ أنَّ بعضهم صلى خلفَ رجلٍ من عظماءِ النفوس الذين يعرفون الله حقَّ معرفته، ثم قال: أكبر يَعْزِمُ بها عزماً، فظننتُ أنَّ قلبي قد انقطع من هيبة تكبيره. قلتُ أنا: أما الذي إلى جانبي، فلما كبَّر مدَّ صوته مدّاً ينبثق من روحه ويستطير، فلو كان الصوتُ نوراً لملأ ما بين الفجر والضحى. وعرفتُ _ والله _ من معنى المسجد ما لم أعرف، فانكشفَ لي المسجدُ في نوره الروحيّ عن معانٍ أدخلتني من الدنيا في دنيا على حِدَة، كأنما يغسلُ الإنسانُ آثارَ الدنيا عن أعضائه قبل دخوله المسجد. موقفاً واحداً ثم يستوي الجميع في هذا المسجد استواءاً واحداً، ويخشعون خشوعاً واحداً، وليس هذا وحدَه، بل يَخِرُّون إلى الأرض جميعاً ساجدين لله، ولا لوجه على وجه تمييز، ومن ثَمَّ فليس لِذَاتٍ على ذاتٍ سلطان. فالمسجد هو في حقيقته موضعُ الفكرةِ الواحدةِ الطاهرةِ المصحِّحةِ لكلِّ ما يزيغُ به الاجتماع، هو فكرٌ واحدٌ لكلِّ الرؤوس، فتقف الأرضُ بمعانيها التُّرابيَّةِ خلفَ جدرانه لا تَدْخله. وما حركةٌ في الصلاة إلا أوَّلُها الله أكبر وآخرها الله أكبر، وكأني لم أفطن لهذا من قبل، ورأيتُه مقبلاً محتفياً، ورأيتُني أتيراً(3) في نفسه، وجالت في رأسي الخواطرُ فتذكرتُ القصةَ التي أريد أن أكتبها، وأن المؤذنَ يكرر في خاتمةِ أذانه: الله أكبرُ الله أكبر فإذا… وقلت: لأسألنَّه، فولَّى مدبراً ولم يُعقِّبْ، ووضعتِ الكلمةُ الإلهيَّةُ معناها في موضعه من قلب الفتاة، الدين في نفس المرأة إنَّ الدين في نفس المرأة شعورٌ رقيق، الله أكبر! أتدري ماذا تقول الملائكة إذا سمعت التكبير؟ إنها تُنشدُ هذا النشيد: الله أكبرُ الله أكبر، كما تدقُّ الساعةُ في موضع ليتكلمَ الوقتُ برنينها. والعملُ يُغيِّرُ العمل، بين ساعات وساعات يتناول المؤمنُ ميزانَ نفسه حين يسمع: الله أكبر، ليعرفَ الصِّحةَ والمرضَ من نيَّتِه، كما يضعُ الطبيبُ لمريضه بين ساعات وساعات ميزانَ الحرارة. تكاد كلُّ دقيقة بِشرِّها تكون يوماً مختوماً بليل أسود، فيجب أن تَقسِمَ الإنسانيةُ يومها بعدد قارَّات الدنيا الخمس؛ لأن يوم الأرض صورةٌ من الأرض، وعند كل قسم: من الفجر،