الحرب نزاع وصراع مسلّح بغية تحقيق هدف سواء كان اقتصاديّا أو توسّعيّاأو لبسط نفوذ ورغم ما تخلّفه من ويلات ورغم أنّها أصبحت خطرا يهدّدالبشريّة بالزوال والانقراض لما أضحت تمتلكه الدول الكبرى من أسلحةدمار شامل فإنّ الكثير من شباب اليوم لا يعون مدى خطورة هذه الآفة ولايرون منها إلاّ جانبها البطوليّ وهذا حال صديقي الذي ما فتئت أخبارالحروب تستهويه وينفق الكثير من وقته في جمع صور الأسلحة وقد زرتهالحرب واكتشفت حينها أنّ ولعه بأخبار الحروب وأنواع الأسلحة إنّما يعود إلى جهله بمخاطر هذه الآفة فقرّرت أن أقنعه بتهديدات الحرب وويلاتها .هي الحجج التي سيلجأ إليها كلّ منّا للدفاع عن وجهة نظره؟ وهل سأنجحفي تغيير رأيه؟كان صديقي منبهرا بالحرب وآلاتها والقتال وأسلحته فكان يجمع صورهاويعلّقها على جدران غرفته حتى خلت نفسي لمّا دخلتها في ساحة حربالحروب وبادرني بلهجة الواثق من أمره :أتعلم ، يا صديقي ، أنّ الأسلحة المتطوّرة مظهر من مظاهر التقدّم والقوّةوالسيادة فانظر إلى الولايات المتّحدة فهي لم تهيمن على العالم إلاّ بفضلأسلحتها الفتّاكة أمّا الدول الضعيفة فهي لا تمتلك سوى أسلحة بدائيّة عفاعليها الزمن فهي أشبه بلعب أطفال ألا تعجبك صورة جنديّ قويّ يحملوالتنفّس فقد صاحبت الإنسان منذ بدء وجوده،إنّ الإنسان ، ميّال بطبعه إلى السلطة والتسلّط بل إنّ الصراعقانون تسير عليه كلّ الكائنات ، فانظر إلى السماء تجد الكواكب في تجاذب وتدافع وتأمّل الأرض تجد حيواناتها في صراع أبديّ لأجل البقاء واقرأتاريخ الأمم فستكتشف أنّه تاريخ حروب تلو أخرى، هذه هي سنّة الحياةنظرت إليه في وجوم وأدركت أنّي في موقف حرج وأيقنت أنّ من الصعوبةإقناعه بخطإ تصوّره لكنّني صمّمت على المضيّ قدما في الدرب الذيتخيّرته بكلّ عزيمة وثبات فقلت بكلّ هدوء ورصانةوالله يا صديقي إنّ أمرك عجيب وسلوكك غريب فهل يعقل أن تغطّي جدرانغرفتك بصور الدمار والخراب والموت ؟ ثمّ تأخذ تتأمّلها في إعجابوانتشاء وكأنّك تتأمّل منظرا طبيعيّا خلاّبا، لقد انتبهت إلى الظاهر وغفلتوويلاتها إمّا لأنّك لم تعشها وليتك لا تعيشها أو لأنّك ذهبت ضحيّة الأفلاموالإعلام الخادع الذي يخرج المجرمين في صور أبطال يقتدى بهم فأنتتقف دون أن تشعر في صفّ سفّاكي الدماء وأعداء البشريّة من صانعيالحروب وتجّارها ولتعلم أنّ الأسلحة التي شغفت بها صنعت لتوفّر الماللشرذمة من الوحوش، أو لم تسأل نفسك عن المجال الذي تستعمل فيهالأسلحة؟ وهل تستخدم مثلا للإعمار والبناء والرقيّ بالفرد والإنسانيّة ؟ إنّكلّ مسدّس وكلّ دبّابة وكلّ صاروخ يتسبّب عاجلا أو آجلا في سفك أرواحالمئات بل الآلاف بل الملايين مّمن لم يقترف أيّ ذنب ، فحيثما حلّت الحربانتشر الموت وخير دليل على ذلك أنّ الحربين العالميتين قد خلّفتا أكثر منسبعين مليونا قتيل بل إنّ القنبلة الذريّة التي ألقيت على هيروشيما باليابانألفا من سكّانها ولا يتوقّف اليوم نزيف الدّم في كلّ مكان أشعلت فيه نارالحرب وهب أنّ حربا عالميّة ثالثة تندلع فستغدو الأرض بما فيها أثرا بعدعين وهو ما أدركه غاندي في قوله :” يجب على البشريّة أن تضع حدّاللحروب قبل أن تضع الحرب حدّا للبشريّة”، إنّ كلّ من عايش الحرب كانإمّا مقتولا أو مشرّدا أو مشوّها فكم من طفل سرقت أحلامه ؟ وكم من شابّقتلت طموحاته ؟ وكم من امرأة انتهك عرضها؟ وكم من إنسان ولد سليماوإعاقات خطيرة يجني المصاب تبعاتها طيلة حياته وما يؤسف أكثر أنّه إلىيومنا هذا ما زلنا نشاهد ولادة رضّع مشوّهين أصيب أجدادهم بالملوّثاتالإشعاعيّة الناتجة عن الأسلحة الذريّة والكيميائيّة وهي في نفس الوقتالسبب في انتشار أمراض خطيرة بين السكّان كالسرطان ، بل كيف بإنسانيعيش تحت أزيز الرصاص وصفّارات الإنذار ودويّ الطائرات وقصفالدبّابات أن يخرج من كلّ ذلك سليما ؟إنّ الخوف والهلع والصدماتوالمشاهد المرعبة التي يعيشها الفرد زمن الحرب لا بدّ أن تخلّف لهأمراضا نفسيّة وأزمات عصبيّة تلازمه حتّى بعد انتهاء الحرب بل تفضيببعضهم إلى الاختلال العقليّ وشاهدنا على ذلك ما عاناه الجنود الأمريكيّونإثر حرب الفيتنام وحرب الخليج وقد تحوّلت شوارع المدن الكبرى المنكوبةفي الحرب العالميّة الثانية إلى ساحات يتنقّل فيها آلاف المختلّين عقليّا وهكذاتحرم الحرب الفرد من حياته وسلامته الجسديّة والنفسيّة والعقليّة أمّا سلوكيّافالحرب تفقد الإنسان المبادئ والعقيدة التي نشأ عليها فتقضي على إنسانيّتهوقيمه فيغدو المحارب كالوحش الكاسر يرتكب جرائمه دون رحمة أو شفقةونرى المجازر والمذابح والتعذيب والتنكيل في عصر كنّا نعتقد فيه أنّالإنسان قد تخلّص من الهمجيّة والبدائيّة فلا أحد ينسى ما عاشه المسلمونفي البوسنة من قتل جماعيّ وهو ما يحدث اليوم في بورما حيث يبادالمسلمون على مرأى ومسمع من العالم أجمع وهو حال المدنيّ كذلك فمتىفقد مورد رزقه ومسكنه وممتلكاته أقبل على السرقة والجريمة من أجلتوفير الطعام لنفسه ولعائلته والإبقاء على حياتهم كما يضطرّ جلّ المدنيينإلى الهروب من بلدانهم واللجوء إلى مخيّمات لا تتوفّر فيها أبسطضروريّات الحياة الكريمة ولا تحميهم من قرّ الشتاء أو حرّ الصيف ولا أدلّعلى ذلك اليوم من حال إخواننا السوريين والفلسطينيين الذين شرّدتهمالحرب في كلّ أصقاع العالم وحرمتهم من عيش آمن في وطنيهما ولا تنسكذلك أنّ أكثر من مليوني عراقيّ هربوا من بلادهم بحثا عن مكان آمنوهكذا تتشرّد الأسر ويتيتّم الصغار و تترمّل النساء فالحرب كما نعتهاالعرب غشوم لأنّها لا تميّز بين ضحاياها ومثلها كمثل الكابوس المزعج بلهي جحيم الدنيا فيه يصبح الخوف خبزا يوميّا وتصبح نظرة الإنسان للحياةنظرة مظلمة وينضب الأمل منه وصدق المثل البولونيّ عندما قال ” عندماتبدأ الحرب يفتح الجحيم أبوابه” فكيف تزعم أنّ الصراع من الشهواتوالغرائز؟ بل هو من ميولات النفس الأمّارة بالسوء التي يجب كبحهاوتهذيبها أمّا القانون الذي تحدّثت عنه فهو قانون الغاب حيث يأتي القويّعلى الضعيف وأجدر بالإنسان المعاصر ألّا يعود إلى مرحلة التوحّشوالبدائيّة وهو ما أدركه شاعرنا أبو القاسم الشابّي في قولهفهل الحروب سوى وحشيّة نهضت ***في أنفس الناس فانقادت لها الدولتوقّفت دقيقة ألتقط أنفاسي فقال صديقي بصوت مرتبك يدلّ على حيرتهوتردّدهلا تنكر أنّ الحرب في كثير من الأحيان حتميّة فهي فرصتنا للدفاع عنالنفس واسترداد الأرض المسلوبة فما أخذ بالقوّة لا يستردّ إلّا بالقوّة وشاهدناحركات التحرّر في البلدان التي استعمرت أراضيها ولم تسترجعها إلّابإراقة الدماء أتنكر أنّنا اليوم نفخر بشهدائنا الذين ضحّوا بأنفسهم في سبيلطرد المستعمر ؟ أليس الاستسلام في هذه الحالة وصمة عار؟ظنّ أنّه قد أفحمني لكنّي فاجأته بلسان فصيح ومنطق بليغ وأدب جمّ:صحيح أنّه على كلّ مواطن الدفاع عن وطنه وحريّته لكن تبقى الحرب الحلّالأخير باعتبارها مظهرا دالاّ على الوحشيّة والهمجيّة وباعتبار أنّ كلّالأطراف خاسرة في الحرب حتّى المنتصرة ترهقها تكاليفها وإذا لم تقتنعبخطورة الحرب على الفرد فأكيد أنّك ستقتنع بآثارها وويلاتها على المجتمعذلك أنّ الحرب تنشر الأوبئة والأمراض نتيجة عدم توفّر الرعاية الصحيّةوتتسبّب في استفحال الفساد و الجريمة فيغيب الأمن وتنتهك كلّ المحرّماتإذ في الحرب لا تراعى قوانين أو مبادئ وينتصب محلّها العنف والكراهيّةوالحقد فيكون البقاء للأقوى ويسيطر منطق الغاب على حدّ قول المثل حوتيأكل حوتا وقليل الجهد يموت” أمّا ثقافيّا فالحرب تدمّر المعالم الحضاريّةوالدينيّة والثقافيّة كالمتاحف والمساجد و المؤسّسات التربويّة وتنهب الآثارالتي تعاقبت على تشييدها حضارات متتالية ولنا في ذلك مثل وهو حرقوتاريخها وبدل التعايش السلميّ بين الشعوب تدخل في تحالفات ونزاعاتتخسر معها ثروتها البشريّة من أطبّاء وعلماء و إطارات أمّا اقتصاديّافالحرب تخرّب المنشآت وتدمّر البنية التحتيّة كالجسور والمصانع والموانئوالسكك الحديديّة والمطارات ووسائل النقل فتتلف الثروات ويتوقّف الإنتاجالذي يفضي بدوره إلى تفاقم البطالة وما ينتج عنها من استفحال للفقروالجوع والتشرّد و الجنوح،لحظات أضف إلى ذلك تضرّ الأسلحة بالأراضي الفلاحيّة وتحرقالمحاصيل الزراعيّة والغابات وتفقد الأرض خصوبتها حتّى الحيوانات لاتسلم كما تلوّث الهواء وتسمّم مياه البحار والأنهار وهكذا تقضي الحربعلى الإنسان والحيوان والطبيعة وهي أشبه بالنار التي تلتهم الأخضرواليابس وقد صدق ميخائيل نعيمة حين قال :”إنّ عدّة السلم الحياة وعدّةالحرب الموت” . خلاصة القول الحرب أخطر الآفات لا يمكن القضاء عليهاإلاّ متى تعايش الإنسان مع أخيه الإنسان سلميّا ونهى النفس عن الهوى