فكل جماعة إنسانية متحدة منتظمة تسمى أمة، وتسمى في اللغات الأجنبية بطاقة الحصان، والقوة التي تتمكن من تنفيذ الأوامر وتنظيم الشئون العامة هي السيادة، فإذا اقترنت السيادة والأمة فتلك هي قوة الأمة السياسية. ونحن نتكلم عن سيادة الأمة حين تتولى الأمة ضبط شئون حكومتها. إن الوقاية للفرد أو للجماعة دفاع عن النفس، والقدرة على الدفاع عن النفس ضرورة من ضرورات الوجود، وبغير وقاية ومئونة لا يحافظ النوع الإنساني على وجوده. وقد ينقسم جهاد النوع الإنساني إلى عدة أدوار، وتقسيمه إلى هذه الأدوار يساعدنا على تتبع أصول الديمقراطية. فالدور الأول من جهاده كان نزاعًا بينه وبين الحيوان، والدور الثاني من جهاده كانت الحرب فيه بينه وبين الطبيعة، ومن أجل هذا حدث لما همَّ يوان شي كاي بتنصيب نفسه عاهلًا على الصين أن أستاذًا أمريكيًّا — اسمه جدناو Goodnow — أوصى باختيار النظام الملكي مع أنه ينتمي إلى أمة ديمقراطية … لاعتقاده أن تفكير الصينيين لا يطرد على سنن التقدم، وقد اتكأ يوان شي كاي على هذه الوصية ونادى بنفسه إمبراطورًا على الصين، فإذا كنا اليوم بسياق الدعوة إلى الديمقراطية فعلينا أن نفهمها على غاية الجلاء والوضوح. فقال كنفيشيوس: إن كل من تحت السماء سيعمل للصالح العام يوم تسود الفكرة الكبرى، وكانت دعوته إلى عالم حر يسوده الإخاء ويؤول حكمه إلى الأمة. ومنشيوس كان يقول: إن القيمة الكبرى للشعب ثم للأرواح التي تتولى الزرع والغلة ثم يليهم جميعًا الأمراء، وكلما قرأنا تاريخ الصين تبين لنا أنها تقدمت إلى دراسة الديمقراطية قبل الأوروبيين والأمريكيين بألوف السنين، فاليوم وقد أخذ الأوروبيون والأمريكيون بالنظام الجمهوري، وليس هذا إلا من قبيل ما يُقال بغير فطنة لمعنى المقال، وما انتهينا إلى ذلك الشعار إلا بعد وقت طويل في التفكير والتقدير. وتعوَّد الصينيون كلما نقلوا شيئًا عن أوروبة أن ينسخوه كلمة كلمة بغير تعديل، وإذا كان الأوروبيون قد حاربوا في سبيل المساواة فالمساواة هي التي يحارب الصينيون أيضًا في سبيلها، فهو لا ينضوي إلى رايتنا إذا ناديناه بأسمائها. فلما ظفروا بالنصر إذا هم يتبينون أنهم لم يكسبوا من القوة إلا القليل مما علقوا به الآمال أثناء الثورة، ولم يشغلوا أنفسهم وهم يحاولون علاج مشاكل الصين بأن يعقدوا المقارنة بينها وبين الولايات المتحدة، فنحن إذا أردنا محاكاته وجب أن تهيئ كل ولاية من ولاياتنا دستورها وحكومتها المحلية، ثم تجتمع الولايات أخيرًا للاتفاق على دستور الأمة قاطبة، وهؤلاء أصحاب هذه الفكرة يسوغون تقسيم الولايات في بلادنا بقيام الولايات الأمريكية على هذه القاعدة، وقلما يخطر لهم أن يرجعوا إلى الحالة التي كانت عليها الولايات الأمريكية عند إعلان استقلالها، وكانت قبل ذلك على عهد أسرة منج متحدة، فإذا رجعنا إلى أسرة سانج وجدنا الولايات على رباط وثيق ووجدنا الأقاليم كذلك بعد عبور نهر اليانجزي إلى الجنوب، وقد كانت على أيام أسرة تانج وأسرة هان على رباط كهذا الرباط، فلن تصبح الصين أمة ذات قوة ووفر إذا نجح القادة كل منهم في تسويغ سيطرته على الإقليم الذي هو فيه. فهذا تانج شيياو قابض على يونان، وعلينا أن نفتح لأنفسنا طريقًا جديدًا ولا نقتدي بغيرنا عميًا عن وجوه الاختلاف، وأوضح ما أعنيه فأعرض أولًا ما أعنيه بطبقات المجتمع الإنساني. فعلى أي شيء أقيم أقسام المجتمع الإنساني؟ على نصيب الفرد من الفطنة والكفاية، وهي صاحبة الفطنة الفائقة التي تتضح لها المسائل المتشابكة من نظرة، وتلقي بالها إلى الكلمة فتتبعها بالعمل العظيم، وليس في طاقتها أن تبتدئ وتبتدع، والطائفة الثالثة: هي التي لا تدرك ولا تعلم وإن حاول الآخرون تعليمها، وعز عليه أن يفرق بين حق السيادة وحق الكفاية، وخلاصة العبارتين أن الحكومة إذا صلحت فنحن الملايين الأربعمائة نجعلها «شوكوليانج» لنا ونخولها كل حقوق الدولة، فلا مناص من التمييز بين حقوق السيادة وحقوق الكفاية والقدرة، ولا يقف منا أولئك الخبراء موقف الأبهة والرئاسة وفخامة المناصب، لأنه أشبه شيء بالآلات القديمة التي كانت عند اختراعها تستطيع أن تتقدم، ولكنها لا تستطيع أن ترجع، ولا غنى لأداة الحكومة عن الجهاز الذي يدفعها قدمًا أو يردها ويثنيها إلى حيث يريد. ومسألة القانون مهمة للحكومة الديمقراطية كمهمة الموظفين، فإذا وجد من يحكم فلا بد أن توجد مع قاعدة لحكمه، ويومئذ تتقرر السيادة الشعبية المباشرة. إن السيطرة المباشرة على الحكومة لا تستقر حتى يتولى الشعب هذه الحقوق الأربعة «الانتخاب والعزل والاقتراح والاستفتاء» ويومئذ يصح القول باشتراك الشعب كله في حكم نفسه، ٨) مبدأ المعيشة من محاضرات كانتون سنة ١٩٢٤ و«مينج شنج» هي كلمة طالما طرقت الأسماع في الصين، ونحن نتكلم عن الرخاء القومي ومعيشة الشعب من أطراف الشفاه ولا نعني بفهم المقصود منها، ولست أرى أنها تعبر لنا عن معنى كثير، فاستخدمت القوى الطبيعية كالبخار والحرارة وتيارات الماء والكهرباء بديلًا من الطاقة الإنسانية، واتسعت المسافة جدًّا بين طاقة الإنسان وطاقة المكنات، وهم يطلقون هناك كلمة الاشتراكية وكلمة الشيوعية كأنهما مترادفتان، إلا أن الأمم اليوم تختلف في مذاهبها الاشتراكية وفي مقترحاتها لحل مشكلاتها، فهل نحسب إذن أن الاشتراكية وجه من وجوه مسألة المعيشة، واطرد نموها وانتظامها وسرت دعوتها إلى كل أمة. غير أن الاشتراكيين الأوائل كانوا جميعًا طوبيين يطمحون إلى بناء دنيا مثالية يظللها السلم والسعادة ولا تسمع فيها شكاية، وأنحى على الاشتراكيين السالفين لتعويلهم على ضمير الفرد وشعور الجماعة في حل مشاكل الاقتصاد التي لا تجدي الأخلاق ولا تجدي العواطف في حلها، وقال: إن المهم قبل كل شيء هو درس أطوار الاجتماع، وهؤلاء ينادون باستخدام الأساليب العلمية لعلاج المشكلات الاجتماعية، فكل دراسة في هذا العصر الذي تتقدم فيه الحضارة المادية على عجل وتتعاظم فيه قوة العلم ينبغي أن تقام على القواعد العلمية كي تثمر وتفيد، ولا يحق لنا أن نترقب حلًّا لمشكلة من المشكلات قبل تناولها بالبحوث العلمية. ومتى تناولت القوى المادية فأنت مواجه مسألة الإنتاج قبل كل شيء … وحيث لا يوجد إفراط في الإنتاج لا توجد بالبداهة ثورة صناعية، وعلى هذا يحل الإنتاج المحل الأول من الأهمية في علم الاقتصاد الحديث، أو بالإيجاز بين كل غاصب وكل مغصوب، ولن تكف هذه الحرب حتى تبلغ الثورة الصناعية مداها من النجاح. وواضح من ذلك أن ماركس يعتبر حرب الطبقات ضرورة من ضرورات التقدم الاجتماعي، على أن التوفيق بين معظم المصالح الاقتصادية في المجتمع إذا أمكن فمعظم الناس ينتفعون بهذا التوفيق والمجتمع يتقدم، ونحن لا نحاول التوفيق بينها إلا لعلاج هذه المشكلة: مشكلة المعيشة وتوفير المئونة. والأخرى تنظيم رءوس الأموال، وهما كفيلتان بحل مشكلة المئونة في الصين. ومن البديهي أن أمم العالم المختلفة مضطرة إلى اتباع طرق مختلفة لحل هذه المشكلة حسب اختلاف الأحوال فيها. فالماركسيون يحلون جميع المشكلات الاجتماعية بالدكتاتورية العمالية وجميع مشكلات الاقتصاد والسياسة بالثورة، ينحو فيه كل فريق منحاه. ينبغي أن نذكر أن مبدأ المعيشة الذي يدعو إليه الكومنتانج ليس المطمح المثالي، وهو المحور الذي تدور عليه جميع الحركات التاريخية، وإنما الفرق في أساليب التطبيق. فما هي الوقائع الأساسية عندنا؟ بل هناك فاقة عامة، وكل ما فيها فقر محتمل وفقر لا يُطاق، فكيف السبيل إلى التسوية بينهم وإلى الخلاص من براثن الفقر الشديد؟ وقد نشأ ملاك الأرض من عهد الإقطاع، وقد مضى نحو ألفي سنة على انتهاء عهد الإقطاع في الصين، ولكنها لم تخل من الملاك الصغار، فشاعت المقامرة والمضاربة بالأرض وارتفعت هذه المضاربات بأثمان الأرض ارتفاعًا لا يُطمأن إليه. ونصف المشكلة كلها محلول إذا وفقنا في هذا العلاج، ولا يكفي تنظيم رأس المال إذا أردنا أن نحل مشكلة المعيشة وأن نستريح طويلًا بعمل حاسم، إن الصين لا تشبه غيرها من الأمم، يُخيل إلينا أنه ما من سبيل إلى وجهة صالحة، وكل كلام عن مبدأ المعيشة فحواه أن يحصل الملايين الأربعمائة على طعامهم بالثمن القليل، فلا تعتبر مشكلة المعيشة محلولة حتى يتوافر الطعام الصالح بثمن ميسور. فقد دلت الإحصاءات الأخيرة على أن الزارع لا يحصل من أرضه على أكثر من أربعين في المائة، وليس يكفي عند تناول مسألة الإنتاج الزراعي أن نجتهد لتحرير الفلاح، بل علينا مع هذا أن نجتهد لمضاعفة الإنتاج بالوسائل العلمية، وخلاصتها استخدام المكنات والاستعانة بالأسمدة والمخصبات ومناوبة الغلات والمحاصيل واستئصال الآفات وتنظيم المعامل والتصدير واتقاء الأزمات. ثم نلاحق ذلك ببناء المصانع والمعامل، وعندنا وفرة من الأيدي العاملة، ولكننا لقلة المكنات لا نقوى على منافسة الأمم الأخرى، واستخدام المكنات في الإنتاج وتوفير العمل لجميع الأيدي الصالحة له في الأمة، وستكون مزاياها ومنافعها مشاعة بين الأمة قاطبة، وسيحصل كل صيني على حصة من أرباح رأس المال فلا يضيره رأس المال كما يضير أناسًا من أبناء البلاد الأجنبية التي ينحصر القسط الكبير من رءوس أموالها بين الأيدي الخاصة. وبهذا تصبح للشعب حصة في كل شيء ولا يكون قصارى الأمر أنه صاحب حصة فيما تنتجه الملكية الخاصة، ومتى كان الربح هو الغاية فنجاحنا في تخفيض سعر الأقوات يتحول إلى طلب الربح من وراء التصدير إلى الخارج حيث ترتفع أثمان الطعام، فالقضاء على نظام رأس المال حتم لا هوادة فيه، ولكننا نرى الموارد تنقص عامًا بعد عام؛ ومدار المبدأ الذي يتصل بمعيشة الأمة أن يحصل الناس على أقواتهم لا أن تمتلئ الخزائن بالأرباح، ويضطرنا هذا إلى خزن الفائض سنة قبل المحصول الجديد فلا نسمح بالتصدير حتى نضمن الكفاية بعد العام القابل … وأن مبدأ المعيشة يجعل الغاية تيسير القوت لجميع أبناء الأمة، ومثل هذا المبدأ قمين أن يقضي على شرور النظم الاجتماعية القديمة. فعلى عاتقها يقع عبء العمل لتزويد الشعب بضروراته المعيشية. فعلى الفلاح أن ينتج مواد الغذاء، وعلى كل بالإجمال أن يعرف واجبه ويقوم بأدائه على الوجه الأمثل. وقد حدث هذا من جراء التمدد والتوسع في رءوس الأموال، وكل هذه المزايا تسندها من ورائها قوى الدول السياسية. وإنهم اليوم ليعاملون الصين كأنها سوق مستعمرة ويقبضون بأيديهم على حقوق السيادة الصينية وعلى شئونها المالية، وعلينا أن نستولي على الجانب السياسي ونلغي المعاهدات الجائرة ونسترد مكوس الموانئ من الأيدي الأجنبية،