ما لبثت مرحلة النمو الحضاري أن بدأت الفعل بعد استكمال وراحت تنسج معطياتها في جل الحلقات ومن ثقافات محلية نبطية وسريانية ولكنها ما كانت تكتفي بالاستعارة أو تقف عند حدود النقل الشيء الذي يكدس ولا يبني، وإنما بذلت جهداً تركيبياً مبدعاً لإعادة صياغة التراث المنقول بما ينجسم والثوابت والتصورات التي رسمها وأكّدها والفعل الحضاري في مرحلة النمو يتدفق - كالمياه المتفجرة - عبر لكنها - بطبيعة الحال - متداخلة متشابكة، العلاقات التأثيرية في هذا الجانب أو ذاك. ويمكن تحديد هذه الاتجاهات بدوائر أو قطاعات كبيرة ثلاثة تتضمن كل منها حشوداً من الفروع أولاً: دائرة النشاط المعرفي والثقافي وهو الذي يتضمن الجانب العقدي فضلاً عن الجوانب الفكرية والروحية ويلعب دوره الحاسم في منحها سماتها المتفردة ثانياً: دائرة النشاط الاقتصادي والتقني والعمراني، الجانب المادي للحضارة ويصطلح عليه أحياناً بالمدنية. ثالثاً: دائرة النشاط الإداري والتنظيمي وهو الذي يتضمن الجانب الفني ويتحرك من خلال النظم والمؤسسات السياسية والإدارية التي تقوم بمهمة الإشراف والتخطيط والتنسيق بين المعطيات كافة، بين العاملين ضمن حلقات الحضارة الواحدة. وقد تدفقت الحضارة الإسلامية عبر هذه القنوات الكبيرة الثلاث وراحت تنمو وتتشكل وتزداد غنى بمرور الوقت، التي صنعت هذه الحضارة وأمدتها بعناصر الحركة والديمومة، هذه القنوات وتشكلها وتصوغها. ولكن المجرى العام كان (إسلاميا)، ومنذ اللحظات الأولى قدرت الحضارة الإسلامية الوليدة على أن تجابه التحديات المبكرة وتستجيب لها وتطويها عبر القنوات الثلاث، وبمرور الوقت شهدت المؤسسات الإسلامية التي غرست بذورها الأولى في عصري الرسول صلّى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم) نمواً متزايداً في المجالات كافة، لكي ما تلبث أن تبلغ محنياتها ولا نستطيع - مرة أخرى - أن نفصل بين هذه المعطيات وبين الأمة أي بين خصائص هذه المعطيات وبين قيم ومبادئ واهتمامات وتصورات الجماعات المسلمة التي صنعتها فكراً وعلماً وفناً وأدباً واقتصاداً كما أنه ليس بمقدورنا أن نعلق خصائص هذه الحضارة السلطة، وإن كانت تمارس دورها البارز في تكوين المنجزات الحضارية ومنحها بعض خصائصها ومكوناتها، إلا أن هذه المنجزات تبقى - في الأعم الأغلب - أكبر من السلطة، والتوجيه، وتتسع منداحة باستمرار لكي تكون في نهاية الأمر موازية لحجم الجماهير الأوسع والأقدر على مواصلة الإنجاز، إيماناً والتزاماً. النشاط المعرفي والثقافي باعتبارها انعكاساً للفكر والحياة والروح الإسلامية. اللونية أو تلك. لنأخذ مثلاً العلوم الإنسانية والآداب والفنون التي تشكل مساحة فماذا نجد؟ إطار إسلامي. أو ذاك. الفيلسوف والمنطقي وعالم الكلام وهو يجاهد لكي يحقق الوفاق بين معطيات الأقدمين وبين تصوّره الإسلامي. الإسلام وقيمه. ومضامينه. الدين الجديد وتصوراته، يحدث وأن يشذ هذا المؤرخ أو الجغرافي أو الفيلسوف أو الأديب أو ولمن يؤخذ بها أو يقاس عليها. والمجال لا يتسع - في هذا الفصل - لاستعراض تفاصيل وجزئيات قصيرة عند بعض جوانب هذه المعطيات، للمعرفة والثقافة الإسلاميتين ونضع أيدينا على الجوهر الذي يكمن خلف ( أ. الإنسانية وهو الأرجح). والخبرات والإبداعات، وصنفت آلاف الكتب، وخرجت عشرات الألوف من العصور. كما علمهم ومن خلال نظرة سريعة على كتب (التراجم) التي تغص بها مكتبتنا التاريخية، يتبين لنا بالأرقام والأسماء الواضحة المحددة الحشد الكبير من المعنيين بالمعرفة في حقولها كافة. كتب التراجم فيما لم تشهد له مثيلاً أمة من الأمم في التاريخ القديم والوسيط. وهذا يحمل - ولا ريب - دلالته الإحصائية الواضحة على حجم التيار المعرفي الذي شقّه المسلمون عبر التاريخ، وعلى تدفق واتساع مجراه. المصنفات في سائر مناحي العلوم والآداب والفنون التي كتبها أجدادنا المسلمون، يتبين لنا بالدليل المشهود كيف أنهم كانوا يربطون تأليفهم ومنجزاتهم الإسلامية بنظرتهم للعالم، وتصوّرهم المتدين للكون والحياة وينتهون منه حتى وهم ينشطون في حقول الطبيعة والهندسة والحساب وينشدون. يحرّم أصنافاً من الفنون قد تقود الإنسان ثانية إلى الخطأ أو الإذلال، قد يتسرب منه الازدواج، إن الانفصام النكد بين ثقافة المسلم وبين أصولها الدينية تقليد دخيل أرغمت عليه أجيالنا الحديثة والمعاصرة إرغاما. جرّعته رعباً ورهبة كما ومن ومن خلال المسار الثقافي العام وأحياناً المادية، وتحقق له بعد جهد طويل لم يكلل بالنجاح الكامل لحسن الحظ، إحداث الإيماني الذي تحركت من خلاله مواكب الآباء والأجداد عبر ثلاثة عشر قرنا بقدر معجز من التوحد، وكلام. وعلوم اللغة والنحو والأدب (بأنواعه كافة)، والكيمياء، للحياة البشرية؟ وما الذي بنته، وأناشيد، وما الذي أنشأته من مراكز التربية والتعليم ومؤسساتهما؟ وما الذي كانت تمارسه في أروقتهما من نظم ومناهج وأساليب؟ إلا بالرجوع إلى ما تركته لنا القرون من بقايا ثروة ضخمة من الكشوف وقد نجدها في عمارة لم تندرس بعد، كما قد نجدها في المنقولات التي وصلتنا عبر تقلبات التاريخ. وقد نجد حصراً لها أقرب إلى والذي لم يصلنا منه سوى الكسور والأعشار. ولنتذكر - على سبيل المثال لا الحصر - ما شهدته الساحة الأندلسية، "فإنه لم تمض أعوام قلائل على سقوط غرناطة ( 1492 م) حتى ارتكبت العربية من سكان غرناطة، وتنظيمها أكداساً في ميدان باب الرملة، ومنها كثير من المصاحف البديعة الزخرف وآلاف مؤلفة من كتب الآداب والعلوم. وهبت لجامعة الكالا وهلك في تلك المحنة معظم تراث الأندلس الفكري. المؤرخون في تقدير عدد المخطوطات العربية التي ذهبت فريسة هذه ولكن (كوندي) قدرها لأن المكتبة الأموية الشهيرة لم تزد - طبقاً لأصح الروايات - على ستمائة ألف مجلد، ولكنها كانت وهي عاصمة الإسلام في الأندلس تحتوي انفس الآثار العربية الأندلسية. الأسكوريال - قريبا من مدريد - في أوائل القرن السابع عشر نحو عشرة آلاف مجلد، في قصر الأسكوريال زهاء نصف قرن، نوعها في إسبانيا ولكن محنة جديدة أصابت هذه البقية الباقية من تراث ففي سنة 1671 شبت النار في الأسكوريال والتهمت معظم ولم ينقذ منه أكثر من ألفين هي التي تثوي اليوم في ( أقبية الأسكوريال" ( 3 فعله الصليبيون في الشام وفلسطين من تدمير وإحراق مئات الآلاف من الكتب، وحمل بعضها إلى شتى الأقطار،