كان يتكلم في تليفون الدُكان بصوت مُرتفع، وجعل يميل بنصفه الأعلي داخل الدُكّان ليبتعد ما أمكن عن الضوضاء، طويل القامة نحيلها وروّي الجبهة والعينين. مُكَّور الذقن وأما صلعته فلم يبقي فوق مرآتها إلا جذور شعر أبيض مثل منابت شعر ذقنه، علي ذلك كان يتمتع بحيوية مرحة وتلتمع عيناه بنشاط وابتهاج. وبدا أنه ينظر إلي الداخل لا إلي الطريق ثم مال يُمنة بمحاذاة صف من اللوريّات الواقفة نسق التوار حتي وجد منفذا إلي الشارع، وما كاد يجاوِز مُقدمة اللوري الأخير حتي شعر بسيارة فورد تندفع نحوه بسرعة فائقة. وقال أحد الشهود فيما بعد إنه كان عليه أن يتراجع بسرعة وإنه لو فعل ذلك لنجا رغم سرعة السيارة، ندّت عن الرجل صرخة كالعواء وفي ذات الوقت انطلقت صرخات الفزع من المارة الواقفين علي التوار، حتي تكون منهم سور غليظ منيع وانتشر في المنطقة الهرج، الرجل وهو يرتفع في الفضاء امتارا ثم يهوي فوق الأرض كشيء، وبسرعة وبدون أن ينظر إلي يساره كما يجب"، وإذا لم يجد وجها مستجيبا عاد ليقول بلهجة خطابية: "لم يكن بإمكاني تفادي الصدمة". خطوات فقط وعينهم لا تتحول عن الرجل ولا تخفي حِدة تطلعها وإشفاقها وقال إنسان:"سيبقي هكذا حتي يموت ونحن لا نفعل شيئا" وبوليس النجدة والإسعاف في الطريق اليه" واعترض الحادث جانب الطريق واضطرت السيارات إلي الإلتفاف حول السور البشري مشاركة الترام في ممشاة. فضاق بها حتي تحركت في بطء شديد وتجمعت في صفوف ممتدة ومتداخلة وهي تصرخ وتعوي بلا فائدة، ومن ركابها تطلعت أعين إلي الضحية في اهتمام وأعين تجنبت النظر في جذع. وجاء بوليس النجدة وراء صفارته الحلزونية فاتسعت الحلقة وغادرت القوة السيارة إلي الرجل الملقي وكان الضابط حاسما وحازما، فأصدر أمرا بتفريق المتجمعين، وإذ لم تكن ثمة ضرورة إلي السؤال فإنه لم يلق بالا إلي الجواب، فتقدم ماسح أحذية وسائق لوري وصبي كبابجي كان عائدا بصينية فارغة، وأعادوا علي مسمع الضابط ما حدث منذ ما كان الرجل المجهول يتكلم في التليفون. وجاءت سيارة الإسعاف وأحاط رجالها بالرجل، وتفحصه رئيسهم بعناية وحذر وهو يجلس القرفصاء، وعندما أُرقِد الرجل بحجرة الفحص في مستشفي الدمرداش، "عملية!" فهز رأسه قائلا: "إنه يحتضر!" وجاء ضابط النقطة والراجل ما يزال راقدا بكامل ملابسه، وقال الطبيب: "هذه الحوادث لا تنتهي"، وشرع في عمله علي حين بسط له الشاويش المرافق له ورقة فوق منضدة، ويملي علي الشاويش:"خمسة وأربعون قرشا من العملة الورقية، وألقي نظرة عابرة علي أسماء الأدوية، فأمِل أن يصادف فيها ما يستطيع أن يستدل به علي شخصية الرجل. فعاد إلي رأس الصفحة ولكن الرسالة كانت موجهة "إلي أخي العزيز أدامه الله" فاستاء من هذه المعاندة ولم يجد بُدا من قرائتها. وامتد بصره فوق الوجه الأسطر إلي الوجه الباهت المشئوب بزرقة مخيفة المغلق كسر، فانتبه إلي نفسه وابتسم ابتسامة إستهانة ليدل علي اعتياده أي شيء وقال "اليوم تحقق لي أكبر أمل في الحياة" بذلك بدأت الرسالة وعاد إلي القراءة متجنبا النظر إلي عيني الطبيب، أمينة وبهية وزينب في بيوتهن، وهذا هو النصر المبين" ، وبعد تفكير طويل، قصة حادثة للكاتب نجيب محفوظ يُسمَع صوتُه رغم ضوضاء شارع الجيش الصاخب، ثم ختم حديثه بقوله: "إنتظرني سأحضر فوراً". كان في الستين أو نحوها، طويل القامة نحيلها وروّي الجبهة والعينين. وقد أفصح مظهره عن إهمال صريح نتيجة للسن أو الطبع أو نسيان للذات،