ثالثًا: تمثلات العنف اللّغويّ في الأمثلة النحوية المصنوعة فهي لا تنفصل عن روح اللغة الحية، بكونها تعبر عن فكر قائلها وثقافته المستمدة من جو البيئة التي يقطن بها النّحوي، سيّما أن المثال المصنوع يحمل دلالة تاريخيّة اجتماعيّة على عصر معين أحياناً، فهو محملٌ بدلالات اجتماعيّة تكشف عن معالم الذهنيّة العربيّة وثقافتها. وفي تقويم المسألة على نِصابها سنحاول أن نركز على كتاب سيبويه (الكتاب) فهو الكتاب الذي رسم معالم الصناعة النحويّة العربيّة، هذا وقد نظرنا أيضًا، إلى ما ورد من الأمثلة المصنوعة في كتب النحو التي تلت الكتاب مرورًا بها إلى الكتب الحديثة، فكان ذلك جزءا من عتاد الصورة المتجلّية للعنف اللّغوي في الأمثلة النحويّة المصنوعة. ومن مظاهر العنف اللّغويّ التي احتقبتها الأمثلة المصنوعة في النحو العربيّ: ولعل كثرة استخدامه؛ حاجة النحاة، إلى أمثلة توضح العلاقات النحويّة، مثل: الفاعل والمفعول به، فهي تتطلب فاعلًا يقوم بالفعل، ومفعولًا يقع عليه الفعل، ما يجعله مناسبًا للأمثلة النحوية التي تحتاج إلى توضيح الأدوار النحوية المختلفة، فيظهر عنف اللغة على وجه الخصوص في الأفعال التي تصف الأفعال التي يمارسها الفرد على فرد آخر. إلا أن فعل الضرب طفا على أفعال وأمثلة متعددة، أحسبُ أن الأمر لم يكن توجه النحاة لاستخدامه توضيحًا للقواعد النحويّة فحسب، ويمكن ذكر بعض من تلكم الأمثلة، بعنوانات متفرعة، وذلك من مثل: أ- زيدٌ والضرب واحتل فعل الضرب أرضية الأمثلة المصنوعة، مما يعكس نمطا ثابتًا في الشرح النحويّ. أبرزها: لماذا لم يختر النحاة أفعالًا أخرى بالحضور نفسه لفعل (الضرب)؟ وهل يمكن أن يعكس استخدام زيد في الأمثلة النحوية بعدًا ثقافيًا متعلقا بالمجتمع العربيّ القديم؟ ما الأفعال التي تقترن باسم زيد في الأمثلة النحوية؟ هل يغلب عليها العنف( ضرب، قتل) أو بسؤال أدق هل هناك أنماطًا متكررة في الجمل التي يُذكر فيها زيد؟ وإن لم تكن إشكالية المسألة في زيد، وهذا ما سيتراءى لنا عند النظر إلى الأمثلة الآتية، تقديما أو تأخيرًا، ومن ذلك ما جاء في قول النحاة: * ما ورد في كتاب سيبويه من أمثلة، - "هذا رجل ضارب زيدًا، كما تقول: هذا رجل يضرب زيدا". -" ضربتُ وضربني زيد"، و"ضربني وضربتُ زيدا" . - "زيدا ضربتُ وعمرا مررت به" . -"أزيدا تضربُه كل يوم" . -"ضربوني وضربتهم قومك " . - "ما أنت إلا الضرب الضرب" . -" أيَّهم تَضربُ أو تقتلُ" . قتل، ، التي لا تترك لنا مجالا إلا بتصريح يفضي إلى مرجعية ثقافية حاملة لتلك المفاهيم. تدرجية هرمية في دلالاتها، وهذا السوق يتجلّى فيه الضرب بشدته، وتكراره، حتى يصبح المضروب ضاربا، وتنقلنا أمثلة أخرى على أصقاع وأماكن يضرب بها زيد في الظهر والبطن، الضرب الشديد، بل بمواصلة الضرب كل يوم. بل أظهرت لنا الأمثلة اعتراك الإنسان مع الجماعة، تتوسع دائرة العنف حتى تصبح عادة مألوفة في الأمثلة النحوية تعكس المجتمع السائد بل ويظهر العنف أيضًا في يوم الجمعة الذي يعد يومًا خاصًا عند المسلمين. تنتقل الأمثلة في حِدتها بتوظيف الفعل (قتل) الذي يعد أكثر عنفًا من (ضرب)، إذ تصبح الأفعال العنيفة مألوفة، فيظهر الفاعل في موقع القوة، ومنهم من أتى على توظيف أمثلة أخرى تدور في فلك العنف اللّغوي المُختزنة لآثار العنف وأدواته. *ومن النماذج التي جاء بها المبرد في المقتضب: - " أعجبني ضربُ زيد عمروا" . –" ضُرب زيدٌ" . * ونأتي بأخرى وردت عند الزجاجي في الجمل: وكذلك تقول: " ضُرِبَ بعمرو على أَعْلَى الْحَائِطِ ضَرْبَتانِ" . - " ضرب زيد عمرًا" . * ومن الأمثلة التي دارت في المصادر النحوية، * ما ذكره السيوطي في همع الهوامع من أمثلة، "زيد هند ضاربها هو" . * ونأتي بمثال بالغ في الضرب، * ومن الأمثلة التي ذكرها ابن عقيل في شرحه: - "ضَرب زيدًا عَمْرُو" . - " ضَرب موسى عيسى" . * نصل إلى ما جاء به الغلاييني في جامع الدروس العربيّة:" ضربتُ اللصَّ سَوطًا، "ورشقتُ العدو سهمًا، أو رصاصة أو قذيفة" . إن استقراء النماذج المتكررة في كتب النحو المختلفة تصنيفًا وزمانًا، أفضى بنا إلى تصور يقرّ بوجود عنف لغوي قار في الأمثلة النحوية المصنوعة بصورة واضحة، يدفعنا ذلك إلى القول دون مهاترة إن الضرب كان جزءا من طبيعة الحياة لديهم، ولعل اختيار (الضرب) في الأمثلة قد يكون جزءا من نمط أوسع يرسخ مفاهيم القوة والسيطرة بعده فعلا أساسيا في الحضور النحويّ، ولعله أخذ الأحقية والأفضلية في مكانته البارزة في المصادر النحوية الأخرى. ولعل العنف اللغوي المتكرر في الأمثلة المصنوعة هيبتوس اللغة، إلا أن هذا التتبع الذي وصلنا بنا إلى تحريك مسار الأمثلة المصنوعة في جهة تألف عصر مؤلفها، غيابًا لفعل الضرب، وتنوعا للأفعال البعيدة عن المفاهيم العنيفة، حصر فيه المثال الضرب لـ(اللص، والعدو) وهي فئة تقلق سكينة المجتمع، كما يشير المثال إلى استخدام أدوات جديدة للعنف لم تذكر في مصادر أخرى قديمة، ما أورده الغلاييني من ( رصاصة، لكنها تعكس رؤية المجتمع واللغة زمن تأليفها، و "لولا زيدا ضربت"، و "ألا زيدا قتلت" . "وأيهم يَأْتِك تضرب" . ولا يعني هذا أن النحويين كانوا يروجون للعنف، لكنهم استخدموا أمثلة تعكس بيئتهم وعاداتهم في التفكير والتعبير. إن وجود الأدوات الحربيّة والحادة مثل: (السيف، السوط، الخنجر)، قد يعزز فكرة أن النحو العربيّ يعكس بيئة ثقافية واجتماعية كان العنف فيها حاضرًا، ومن تلك الأمثلة: - " المرء مقتول بما قَتَلَ به إنْ خِنْجَرًا فخنجر وإن سيفا فسيف" . - " آلسوط ضُرب به زيدٌ وهو كقولك آلسوطَ ضُربتَ به" . إلا أن تكرار هذه الأمثلة قد يجعل العنف جزءًا مألوفا من التفكير النحويّ، واستتباعًا لهذا المدّ، سنجد أن الأمثلة التي جاءت في درس التحضيض قد توارت عن كل فِعل عنيف، فكانت أمثلة هذا الدرس الآتي: "أَلا تتوب من ذنبك" ، "لولا تستغفرون الله" . ج- من يُضرب في الأمثلة النحو؟ لم يكن الضرب في شروح النحويين الأوائل مقصوراً على فئة محددة، تجلّى ذلك في: 1- ضرب الغلام أو العبد - "أعبدُالله أهان غلامَه أو عاقب غلامه" . - " مررت برجل معه امرأة ضاربها" ، ومثل قولك: "معه امرأة ضاربها زيد"، تفصح الأمثلة النحوية عن تراتبية تفرضها معايير اجتماعية، فكان ترتيبي للمضروب تصاعديا من الأقل مكانًا في المجتمع إلى الأكثر حسب تلكم المعايير، وفِكر قائلها. د- الضرب إهانة جاءت أمثلة على ذلك، كما تقول:"يسوءني أن أضربك، أي "يسوءني ضربُك" . - وذلك قولك: «هذا رجلٌ ضربته» و «الناس رجلان: رجل أكرمته ورجل أهنته، كأنّه قال: هذا رجلٌ مضروب»، و «الناس رجلان: رجلٌ مُكْرَم ورجلٌ مُهان» . يظهر من هذه الأمثلة أن الرجل المهان تعِرفه من ضربه، فكرامة المرء تتجلّى باحترامه، هل كان اختيار ضرب بريئًا، دون اعتبارات أو ارتباطات بالسياقات الثقافيّة أو الفكرية لدى النحاة؟ يمكن وضع احتمالات دفعت النحويين استعمال فعل (ضرب) في حضوره الوارف على ساحات المصادر النحوية، منها: يتيح للنحاة إظهار العلاقات الإعرابية بين الفاعل والمفعول دون لبس، مما يسمح دراسة التراكيب النحوية، مثل: المبتدأ والخبر، مما يجعلها أكثر تعقيدًا في التوضيح النحوي، فهو فعل يصلح لكل الأزمنة والتراكيب المختلفة؛ فهو يأتي على وزن فَعَلَ وهو من الأوزان القياسية الأساسية التي يُشتق منها العديد من الأفعال الأخرى التي يسهل تصريفه، إذ يمكن استخدامه في الماضي والمضارع والأمر دون أن يفقد وضوحه. - الاقتصاد في اللغة: (ضرب) هو فعل ثلاثي مجرد، مما يجعله خفيفًا في النطق ومأنوسًا في الحفظ، - ولعل استخدام ( ضرب) يعكس فلسفة الحسم، ففضل النحاة استخدامه؛ لأنه يرمز إلى القطع والوضوح، على عكس أفعال مثل “ظن” التي تتطلب تأويلات. - الانسجام مع الطبيعة الجدلية للدرس النحويّ، والضرب يعكس هذه الطبيعة الجدلية، حيث يرمز إلى فعل حاسم ومباشر، ربما يشبه في رمزيته الصراع الفكري الذي كان يدور بين المدارس النحوية (البصرية، الكوفية) حيث يحاول النحاة إثبات صحة قاعدة أو دحضها من خلال الأمثلة. - ولعل اختيار (ضرب) محاكاة للعلاقات السلطوية في المجتمع القديم، أو السيد والعبد، أو الأب والابن، وهذا يفسر قلة وجود أفعال، مثل: (لعب)أو (تناقش) التي تعكس سياقات أكثر تعاونية. كان الفعل مرتبطًا بسياقات مألوفة في البيئة التي نشأ فيها النحو، حيث القوة والبطش من القيم السائدة، كرّره النحاة حتى أصبح مألوفًا، حيث كانت هذه الثقافات تستخدم أمثلة تتضمن السلطة والقوة. - ربما لم يكن النحاة هم أول من استخدم ضرب، تنوعت مظاهر العنف في الأمثلة المصنوعة، والحبس، - " أتضرب زيدا أم تشتم عمرا "، "أتضرب أو تحبس زيداً ؟ " . - "مررت به فإذا له صَوْتُ صَوْتَ حمار" ، كذلك لو قلت "مررتُ به فصوته صوتُ حمار" . "مررت برجل رجلِ سوءٍ" . -" أما الخبيث فأنت، وأما العاقل فهو". - "شتمُ غلامك زيدا" . -" رَأَيْتُ رَجُلًا حِمَاراً" . تفشت الإساءة اللفظيّة، التي حملت في طياتها عنفًا لغويّا، وهو ما قد يكشف جوانب غلطة في طريقة تفكيرهم وحالاتهم النفسيّة في علاقاتهم الاجتماعيّة، وهي فئة لا تكاد أن تُحسب بوجودها إلا لمالكها، ومن تلك الأمثلة التي أوردها النحاة، قولهم: - " ومثل ذلك قولك للرجل: كم لك عبداً ؟ فيقول: عبدان أو ثلاثة أعبدٍ" . - "هذا غلامٌ لك ذاهبا" . -" أذاهبة جاريتاك" . - "أغلام عندك أم جارية". -" أنا في طَلَبِ غلام أشتريه . -" كم عبيدٍ لزيدٍ" . والغلام، وإن تمثيل هذه الفئة في الخطاب النّحوي تعكس مفاهيم عنيفة، وهو مصداق للأمثلة النحوية التي طرحها النحاة على ساحة الدرس النحويّ. والعبد مفعولًا به أو تابعًا، وهذا يعكس كيف كانت العلاقات الاجتماعية تُصاغ لغويًا، إذ يُزج العبد في موقع الخضوع، سواء كان مفعولًا به أو تابعًا لسيده، وإن كانت أكثر إمتاعا، إلا أن ذكر اسم هند في هذا المثال، يحمل عنفًا رمزيًا، يطرح مكانة المرأة في المجتمع وفي الساحة النحوية، أي إن صورة المرأة في مرتبة دون البشر مجازًا. إلا أن المسألة اختلفت في النحو المعاصر، فقد تجنب النحويون استخدام مصطلحات، والجارية)، مثل: (الصديق، والطالب، لما كانت الأمثلة النحوية مسرحا لتجليات العنف اللغويّ في جوانب قد وقفنا عندها، أم أخذ وضعها يكوى بنار مستعمل اللغة؟ ندرك أن للسياقات الاجتماعيّة، وننظر إلى الأمر من زاويتين اثنتين: أولها: وضع المرأة المتزعزع في المجتمع، أولئك الذين لديهم القدرة على صنع الرموز ومعانيها، وبناء التمييز الجنسي الذي يضمن حقهم في تقلد وامتلاك اللغة، يمكن تلمس هذا الأثر لمكانة المرأة في الأمثلة المصنوعة الآتية المصنفة وفق جوانب متعددة: من ذلك قولهم: وفقا لطرح النحاة للكلمة وأقسامها، فالكلمة" لفظ مفرد وضع المعنى: كرجل وغلام" ، على حساب وجودها، وما نلمحه أيضًا، إذ "المعرفة خمسة أشياء، منها: الأسماء الأعلام، نحو قولك: « زيد ، وجعفر، وما أشبه ذلك ، يتبدى لنا، فكان الخطاب النحويّ موجها للذكر دون الأنثى، ، ، تردادًا لما رسخته الثقافة عن صورة المرأة ومكانتها في الأمثلة المصنوعة، مما ورد في قول النحاة: هذا ولم تخلُ المصادر النحوية المتأخرة من اختزال صورة المرأة، قولهم: والشجاع، وتحفظ مكانته، فتتفاخر الثقافة ببسالة الرجل، د- التهميش الاجتماعيّ للمرأة بناء على ما أورده النحاة، - "مررت بالكريم أبوه" - "مررت برجل حسنٍ أبوه" . - "هذا أخوك، فلم يذكروا (الأم)، و (الأخت)، فقد غلبت الذكورة على الأسماء والكنى، يعرب ذلك، ومما يلفت النظر، لا الأسرة، فهو يطرح دور المرأة أرضًا، ويجعل لحضورها غيابًا. رست الدراسة على نتائج، منها: وتجلّى ذلك بمظاهر تُعلن عن وجود عنف واصب في أذهان النحاة، وإن ما تطرحه العادات والمعتقدات وما يلوب تكوين فكر الواحد يظهر في لغته، حبس، شتم. وإن غياب الأفعال التي تدل على الرحمة والتسامح يعكس جزءا من نمط أوسع يقوم على الصراع والتنافس، وغيرها. - أبانت الدراسة تلك المصطلحات التي تحتفظ داخلها آثار عنيفة، ولم تسلم بعض الأبواب وفروعها من بقايا هذا العنف، هو حفيظة النحويين التماس الأمثلة النحوية القريبة من الأذهان والمحيطة بهم تيسيرًا في فهم المسائل وأخذًا في تقريب القواعد والدروس النحوية على المتعلمين بوضع أمثلة مألوفة لديهم، وذلك في تغليب الضمير المذكر إذ أمسى هو السائد بفعل الثقافة غدا الخطاب متحيزًا للذكورة، ولعل تغييبها هو اتصال لقيمة المرأة في مجتمعهم، وهو توارٍ يتجاوز حدود اللغة. - إن جغرافيا الذكورة تظهر في توظيف اسم ذكوري (زيد) في أغلب الأمثلة النحوية المصنوعة، وهذا ما اتفقنا عليه بحضور الذكر، إلا أن ما لم نجتمع عليه اختيار (زيد) دائم الحضور في أمثلتهم عن غيره بنفس الدرجة، غير مضاف أو مزيد، يتناسب مع التراكيب النحوية المختلفة من ناحية أخرى لعله كان اسما شائعا في الأوساط القبلية ذات النفوذ، إذ قد يكون متأثرا بوجود تحقيقات تاريخية تحمل هذا الاسم، لعل زيدا كان اسمًا محايدا لا يثير جدلا سياسيا بعكس أسماء مثل: عمر، عثمان، علي، التي قد تحمل ارتباطا بالسياسة أو الطائفية. أثبت نفسه لكونه الأكثر مرونة ووضوحًا، ولعله يمثل شخصًا افتراضيًا أقرب إلى مفهوم(X ) في الرياضيات،