لقد اعتبر القرضاوي قسمة العالم إلى دار إسلام ودار حرب قضية تاريخية، مشيراً إلى القسم الثالث الذي يتجاهله بعضهم وهو دار الهدنة أو العهد التي تنطبق على حالنا اليوم أكثر من دار حربٍ أو دار إسلام، وقال بأنَّ الأرض جميعها لله، وأنَّ الهجرة مشروعةٌ بنص القرآن الكريم لأسبابها المتعددة. وأنَّ الهجرة طيق لنشر الإسلام في العالم من غير حروب. ولا مجال لمنع الهجرة لظروف النّاس التي تراعيها الشريعة.بل إنَّ وجود الأقليات المسلمة اليوم في البلدان صاحبة التأثير العالمي مهمٌ للمسلمين. كما وأشار إلى أهمية توطين الدعوة في تلك البلدان لتصير للمواطنين الأصليين وليس للمهاجرين وحدهم. وموالاة المسلم للمؤمنين لا تمنعه من العيش مع الآخرين والقسط والبر معهم. ولكن لا مجال للتساهل في مسائل الاعتقاد لقاء تلك المشاركة. والأصل عيش المسلم كمواطن في تلك البلدان،ونوّه إلى ضرورة فهم السياقات والأسباب التي جاءت فيها بعض الأحاديث النبوية التي تمنع المسلم من مخالطة المشركين والإقامة معهم، لخطورة تعميمها في غير المقصود منها بشكلٍ يؤدي إلى انغلاق المسلمين على أنفسهم ومنع تعرِّف العالم على رسالة الإسلام.وأشار إلى آياتٍ في كتاب الله تعالى أُسيء فهمها بخصوص العلاقة مع غير المسلمين، والأصل حصرها في الحربيين وليسفي عموم المشركين ولا في المسالمين منهم. من ذلك: ((لَا تَتَّخِذُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلنَّصَٰرَىٰٓ أَوۡلِيَآءَۘ)). و((لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ)). وإلَّا كيف سمح لنا بمصاهرتهم مع ما في ذلك من مودة متحققة؟ وماذا مع الآية: ((لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ)). وكذا آية: ((لَيۡسُواْ سَوَآءٗۗ)). وإذا أراد البعض الاحتجاج بآية: ((وَلَن تَرۡضَىٰ عَنكَ ٱلۡيَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَٰرَىٰ)). فليس هدفنا رضاهم إنما رضى الله تعالى.كما ويرى القرضاوي أنَّ الإسلام ينظر إلى الأرض باعتبارها أرض الله سبحانه وتعالى، قال تعالى:" (( يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ أَرۡضِي وَٰسِعَةٞ فَإِيَّٰيَ فَٱعۡبُدُونِ))".فعبادة الله عزَّ وجل لا تقتصر على أرض واحدة، قال تعالى: "((إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمۡۖ قَالُواْ كُنَّا مُسۡتَضۡعَفِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ قَالُوٓاْ أَلَمۡ تَكُنۡ أَرۡضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٗ فَتُهَاجِرُواْ فِيهَاۚ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا))". والأرض مفتوحة للمسلم ولولا ذلك لما انتشر الإسلام في جميع بقاع العالم.فيعتبر أنَّ الهجرة إلى البلاد الأخرى وإن كانت غير إسلامية فهي مشروعة، فالهجرة مطلوبة للأمن، قال تعالى: "((ٱلَّذِيٓ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٖ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفِۢ))". فقد يضيق على الإنسان رزقه في بلده، فيذهب ليبحث عن سعة الرزق في بلاد أخرى، قال تعالى: "((وَمَن يُهَاجِرۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يَجِدۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُرَٰغَمٗا كَثِيرٗا وَسَعَةٗۚ))". وهناك من يذهب لنشر الدعوة الإسلامية في ظل حاجة المسلمين الجدد من أصل تلك البلاد إلى من يعلمهم ويفقههم في أحكام دينهم.ويؤكِّد على كون الوجود الإسلامي في الغرب ضرورة هناك؛ إذ لا بد أن يكون للمسلمين وجود قوي في تلك البلاد، حتى لا تترك التيارات الفكرية المعادية للإسلام وحدها تؤثر في السياسات والقرارات والتوجهات.ويستدلُّ بفعل النّبي محمد صلّى الله عليه وسلم عندما أمر الصحابة بالهجرة إلى الحبشة_ ولم تكن دار إسلام في ذلك الوقت_ وقال لهم: هناك ملك أرجو ألا تظلموا عنده. وبالفعل فعندما ذهبت قريش إلى ملك الحبشة (النجاشي) وطلبت منه أن يسلمهم المسلمين الموجودين لديه،كما وقد بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم الصحابي مصعب بن عمير إلى المدينة المنورة _ولم تكن دار إسلام في ذلك الوقت_ لنشر الدعوة الإسلامية في تلك الديار.فهناك أكثر من سبب يجعل هجرة المسلمين إلى الديار غير الإسلامية مشروعة.وقد أكّد على ألَّا يذوب المسلمون في تلك المجتمعات، فمن الخطورة أن تضيع هوية المسلمين الدينية عند ذهابهم إلى البلاد غير الإسلامية، فعنما يغترب المسلمون لا بد أن يكون معهم عدد من العلماء والدعاة والمفتون حتى يحافظوا على شخصيتهم الإسلامية في تلك البلاد. يترجّح الشيخ القرضاوي الذي جاء متوافقاً مع رأي جمهور الفقهاء في حكم هذه المسألة، حيث أجازوا للمسلم أن يقيم في بلاد الكفر، إذا كان قادراً على المحافظة على شخصيته الإسلامية وعلى إقامة دينه، وذلك لوجاهة الأدلة التي ساقوها في هذا المقام، ولأنَّ فيه جمعاً وتوفيقاً بين الأدلة، حيث تحمل الأدلة التي ظاهرها تحريم الإقامة في بلاد الكفر على حال عجز المسلم عن إقامة دينه أو خوفه من الفتنة في دينه.كما وتنظر هذه الفتوى نظرة واقعية لأحوال المسلمين، فهي تقدر ظروفهم، وتجيز لهم الهجرة لطلب العلم، وغيرها من الأسباب المشروعة التي تجيز لهم الإقامة في البلاد غير الإسلامية، وبالتالي فالفتوى تتبنى مراعاة فقه الواقع المعيش.بالإضافة إلى ذك فإنَّ هذه الفتوى تنظر نظرة جماعية للأقليات المسلمة في الغرب، إذ تؤكد على ضرورة الوجود الإسلامي في الغرب، لتقوية عزائم المسلمين هناك سواء أكانوا من أصل تلك البلاد أم من الوافدين إليها، ولتشكيل مجموعة إسلامية متماسكة يكون لها دورها في التأثير في تلك الدول حتى لا تترك التيارات المعادية للإسلام تؤثر وحدها في صنع القرارات وتبني التوجهات في تلك البلاد. وبالتالي فهي تحرص على ضمان الوجود الجماعي الإسلامي في الغرب.