تأثير الفقه الإسلامي على تكوين القانون الإنجليزي برهام محمد عطا الله كل من درس القانون المقارن يعرف أن هناك كثيراً من أوجه الشبه بين قواعد الفقه الإسلامي وقواعد النظام القانوني الأنجلو أمريكي المعروف (بالقانون العمومي) Common Law إلا أن هناك بعض الدراسات الجديدة ذهبت إلى أبعد من ذلك، وبدأت تبرهن على أن القانون الإنجليزي قد تأثر في فترة تكوينه في القرن الثاني عشر ببعض قواعد الفقه الإسلامي، وخاصة بالنسبة لنظرية العقد ودعوى الاستحقاق الخاصة بحماية الحيازة والملكية. بل ذهبت هذه الدراسات إلى أن نظام الترست (Trust) قد نقل من نظام الوقف الإسلامي، هذه الدراسات الجديدة تستدعي الاهتمام؛ وها نحن أولاء في آواخر القرن العشرين وأوائل القرن الواحد والعشرين ننظر فيما إذا كان القانون الإنجليزي نفسه ـ المعروف بأنه لم يتأثر بالقانون الروماني ـ قد تأثر أثناء فترة تكوينه بالشريعة الإسلامية. كل ذلك في وقت بدأت السياسة البريطانية تبحث فيما إذا كان من المناسب أن يتاح للمسلمين البريطانيين فرصة تطبيق الشريعة الإسلامية على أحوالهم الشخصية. إذا تركنا جانباً مسألة تطبيق الشريعة الإسلامية على الجالية المسلمة في بريطانيا، فإن للسؤال الخاص بمدى تأثر القانون الإنجليزي بالفقه الإسلامي أثناء فترة تكوينه أهمية علمية كبيرة، وخاصة أن هناك كثيراً من قواعد القانون الإنجليزي ظهرت في القرنين الثاني عشر والثالث عشر أثناء حكم هنري الثاني (Henry Π) (1189- 1154) ولا يعرف على وجه التحديد مصدرها التاريخي. فلا يمكن إرجاعها إلى الفترة الأنجلوسكسونية قبل القرن الحادي عشر كما لا يمكن إرجاعها إلى القانون الكنسي ولا إلى القانون الروماني، كما لا يمكن إرجاعها إلى القواعد التي أتى بها النورمان حين احتلوا إنجلترا ابتداء من 1066م كما سوف نرى. تقرر الدراسات الجديدة التي ستكون موضع دراستنا أنه حيث لم يتح من قبل دراسة العلاقة بين الفقه الإسلامي وتلك القواعد الإنجليزية مجهولة الأصل؛ ويبقى السؤال ملحاً عن الطريق الذي تم من خلاله هذا التأثير. والإجابة نجدها في احتلال النورمان المتزامن لجزيرة صقلية في جنوب إيطاليا في 1061م والجزيرة البريطانية في 1066م، وحيث وجد النورمان في صقلية حضارة إسلامية مزدهرة تطبق فيها قواعد الشريعة الإسلامية كان من السهل أن يتأثروا بها وتنقل إلى إنجلترا في الفترة التي كان القانون الإنجليزي الـ (Common Law) في فترة التكوين. وقد يكون من المناسب أن نبدأ دراستنا بعرض هذه الظروف التاريخية لالتقاء الفقه الإسلامي مع النظام القانوني الإنجليزي (أولا)، ثم نعرض للقواعد والنظريات القانونية التي تبناها القانون الإنجليزي متأثراً فيها بقواعد الفقه الإسلامي (ثانيا). أولاً: الظروف التاريخية لالتقاء الفقه الإسلامي مع النظام القانون الإنجليزي يرجع تكوين النظام القانوني الإنجليزي إلى استيلاء النورمان ـ الذين يرجع أصلهم إلى الفيكينج (Viking) الذين قطنوا شمال غرب فرنسا في القرن التاسع والعاشر الميلادي ـ في إنجلترا في سنة 1066م ميلادية؛ ليكتمل بالاستيلاء على بلرما (Palerma) وعلى كل الجزيرة في سنة 1091م وسماحهم ببقاء الشريعة الإسلامية مطبقة على المسلمين الذين كانوا قد أقاموا بالجزيرة حضارة باسقة لمدة قرنين، 10). وقد كان انتساب غزاة إنجلترا وغزاة صقلية إلى نفس المجموعة البشرية (النورمانديين The Normans) مناسبة لأن يتزاوروا ويتصاهروا ويتبادلوا الخبرات لإقامة نظام سياسي وإداري وقانوني جديد، يتخلصون فيه من عورات النظام البدائي الذي جلبوه معهم من بلاد الشمال. وكان وجود الفقهاء في صقلية واستمرار تطبيق الشريعة الإسلامية على المسلمين بها مناسبةً للتعرف على حضارة المسلمين والتحقق من ملاءمة قواعد الفقه الإسلامي في تسيير أمور الدولة وتنظيم المعاملات بين الأفراد. وتزامنت هذه الفترة مع بداية الحملات الصليبية التي توسعت إلى أن ظهر نفس النورمان على رأس إمارة أنطاكية على الساحل الشمالي للشام، وليصل أحد أحفادهم ليكون ملكاً لمملكة بيت المقدس بجانب كونه إمبراطوراً للألمان وملكاً على صقلية، محملين بحضارتنا لتبدأ عندهم عصور النهضة، ولتخبو شعلة الحضارة والنور لدينا. ونحن هنا سنكتفي بعرض لبعض النظريات التي استعارها القانون الإنجليزي من الفقه الإسلامي. 1- نظرية العقد الناقل للملكية Writ of debt فبالنسبة لعقد البيع يلتزم المشتري بدفع الثمن ويلتزم البائع بتسليم المبيع. وقد وصل القانون الإنجليزي في عهد هنري الثاني ـ الذي يعتبر بحق بداية تكوين الـ Common Law ـ إلى هذه النتيجة بإدخال ما يسمي بدعوى الدين (Writ of debt). وكانت هذه الدعوى كغيرها من الدعاوى، التي يمكن الحصول على أمر ملكي بشأنها بدفع مبلغ من المال إلى الديوان الملكي موجه إلى المحكمة الذي يلجأ إليها من له حق يرفض المدين الوفاء به، كما هو حال البائع الذي يطالب بالثمن أو المشتري الذي يطالب بتسليم المبيع. فالملكية في القانون الروماني وفي القانون الأنجلوسكسوني قبل الغزو النورماندي لا تنتقل بمجرد تبادل الإيجاب والقبول، ونقل الملكية المباشر بمقتضى الإيجاب والقبول يترتب عليه أنه إذا لم يتم التسليم مباشرة فإن البائع يعد مقصراً في التسليم ويعتبر كالمغتصب في الفقه الإسلامي. ويترتب على ذلك أيضا أنه إذا هلك الشيء المبيع قبل التسليم فإنه يهلك على مسؤولية البائع كما لو كان غاصباً، والتي كانت بداية لتأسيس محاكم القانون العمومي باعتبارها المختصة بكل ما يتصل بالسلم العام، ولم تدخل في اختصاص محاكم المقاطعات. 2- أحكام الاستحقاق الإسلامي ودعوى تحقيق استلاب الحيازة Assize of novel desseisin لم تعرف إنجلترا في الفترة السابقة على الغزو النورماندي نظام دعوى استلاب الحيازة. ويرجع جون مقدسي أصل هذه الدعوى إلى دعوى الاستحقاق الإسلامي، خاصة في الفقه المالكي، الذي يعتبر أن الحيازة قرينة على الملكية. وأن المالك الذي استلبت منه الحيازة له الحق في استعادة حيازته. ويقرر جون مقدسي أن هذه الدعوى لم تعرفها أنظمة القانون الروماني أو القانون الكنسي والقانون الأنجلوسكسوني السابق على العهد النورماني. حيث كانت الدعاوى في هذه الأنظمة تحمي الحيازة في ذاتها حتى ولو لم يكن الحائز الذي استلبت حيازته هو المالك الحقيقي. على العكس من ذلك نجد دعوى الاستحقاق الإسلامية تحمي المالك نفسه. ويشير جون مقدسي أيضا إلى الفارق الكبير بين الشريعة الإسلامية التي لا تعترف بالتقادم المكسب ولا بالتقادم المسقط على خلاف القانون الروماني. فالقانون الروماني يقرر اكتساب الحائز غير المالك للملكية إذا استمرت حيازته مدة معينة، فمضي المدة لا يعطي الحق لواضع اليد ولا يسقط حق ذي حق. وأقصى ما أعطته الشريعة للمدة الطويلة من قوَّة أنها جعلتها سببا في منع سماع الدعوى عند الإنكار أما مع الإقرار فالحق ثابت به، فالدعوى تكون مسموعة)، وطبقا للمذهب المالكي الذي ساد في المغرب والاندلس وصقلية كانت مدة منع سماع الدعوى تبلغ عشر سنوات. وقد وجدنا إشارة إلى لفظ (اللفيف) في فتاوى (الونشريسي) وفي كتاب قديم نشرته حديثا وزارة الأوقاف المغربية في سنة 1998م تحت عنوان (فتاوى تتحدى الإهمال) إشارة إلى ما أطلق عليه (دعوى لفيفية) بشأن دعاوى الاستحقاق، والقول بمضاهاة نظام المحلفي(Jury) الذي لا يعرف المؤرخون لتاريخ القانون الإنجليزي ـ حتى الآن ـ أصله التاريخي مع نظام (اللفيف) يعتبر أمرا جديدا يستحق البحث والنظر بتأنٍّ. 3- إلغاء نظام الإثبات بالتعذيب بالنار والماء المغلي في رأينا أن نموذج الفقه الإسلامي في وسائل الإثبات، وأن البينة على المدعي كانت هي الأساس في إلغاء نظام الإثبات بوسائل العذاب (Ordeal) في إنجلترا وفي غيرها من البلاد المسيحية. ويتمثل نظام الإثبات بالعذاب في الإمساك بالحديد المحمي أو وضع اليد في النار أو الماء المغلي أو بالمبارزة (by battle) وكلها وسائل تؤدي إلى الهلاك لمن يقوم بها. وأصل هذه الوسائل البدائية والبربرية الإيمان بأن الشخص إذا كان صادقا فلن يتأثر لا بالنار أو الماء المغلي حيث ينجيه الرب. حين جاء النورمان إلى صقلية المسلمة وجدوا نظاما إنسانيا متقدما في الإثبات. وكان ذلك في 1215م. وهناك قصة يتبناها كثيرون من الذين أرخو لمؤسس حركة الرهبان الفرنسيسكان (سان فرانسوا داسيس) أنه أراد مقابلة الملك الكامل أثناء الحملة الصليبية الخامسة على دمياط؛ لكي يقنعه بأفكاره المسيحية وعرض أن يمتحن عن طريق النار أو الماء المغلي، Edition du seuil، 4- نظام الترست Trust والأوقاف فهذا النظام الذي ترعرع في ظل نظام العدالة (Equity) في إنجلترا يوجد مصدره في نظام الوقف الإسلامي الذي عرفه مسيحيو أوروبا وبالذات مجموعات الفرسان المتشددة التي جاءت مع الحملات الصليبية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر مع الممولين لهذه الجماعات. وكتبت في القرن الثالث عشر وهي قريبة الشبة بالوقفيات التي عرفها المجتمع الإسلامي. ومرتون كان رجلا مهما في إنجلترا في عصره، وشارك بنفسه وأمواله في الحروب الصليبية، وكان على صلة قوية بالفرسان المسيحيين. وتقول الباحثة القانونية التي نشرت الوثيقة: إنه كان من الصعب عليه أن يقرر ويعترف بأن النظام الذي اقترحه لتأسيس كلية ميرتون التي تسمت باسمه مأخوذ عن نظام إسلامي ذهب في الأصل لمحاربة المؤمنين به. ويقوم نظام الترست على نقل ملكية المال المخصص للخير أو إلى أي غرض شرعي آخر كالأهل والأولاد، إلى شخص آخر يكون هو الأمين، ويكون الأهل والأولاد أو الغرض الخيري المستفيد (Beneficiaries). حيث أصبحت حماية المالكين عدالة وديانة أكبر التزام على المالك القانوني أو الرسمي، واعتبرت المحاكم أن أكبر واجباتها يتمثل في حمايتهم. وقد تجاوز نظام الترست الآن الأغراض الأولي التي كانت له، وأصبح يستخدم كأداة للاستثمار الدولي، كما استخدم الترست كوسيلة لحماية المستفيدين من ظلم الحكام وطريقة لإخفاء ملكيتهم وأبعاد أموالهم المكونة للترست عن أعين السلطات الجائرة. ووجه الشبه بين الترست والوقف هو في نقل الملكية للمال الموقوف أو المال موضوع الترست إلى شخص آخر يتصرف فيه لمصلحة المستفيدين، الذين قد يكونون أفرادا أو جهة من جهات الخير كمستشفى أو مدرسة أو نادٍ أو مسجد أو كنيسة. فالوقف الذي يسمى بالحبوس في شمال إفريقيا المالكية مذهبا يكون بحبس المال على ذمة حكم الله. فينقل الملكية من الواقف إلى حكم ملك الله وبالتالي يصبح المال غير قابل للتصرف فيه إلا طبقا لشروط الواقف. 5- القراض وشركات التوصية البسيطة Commenda من النظم الإسلامية المستقرة: القراض. Partnership and Profit in Medieval Islam (1970). 6- القواعد البحرية لجزيرة أوليرونOleron من أوائل المدونات الخاصة بالتجارة مجموعة أوليرون (Oleron). وكانت اليانور تفعل ما تشاء واشتركت مع زوجها الأول في الحروب الصليبية، واستراحة للصليبيين في ذهابهم ورجوعهم إلى بلادهم. وقد اشتملت مدونة (Oleron) على كافة القواعد البحرية التي كان معمولا بها في البحر الأبيض المتوسط أثناء فترة الحروب الصليبية؛ ويبدو لنا أن الموضوع يتجاوز حدود مجهود فرد واحد. بل إننا نرى أن نوسع أفاق الأبحاث؛