وتمايل حمار حسين التاجر في وقفته. ولم يكن صاحبه قد ترجل عنه، فانه لم يرد ان يظهر لشيخ محجوب تلهفه على شراء النخلة ذات البنات الخمس، التي يسميها السودانيون في الشمال (الاساسق)، تتلاعب بغدائرها النسمات الباردة التي هبت من الشمال تحمل قطرات من مياه النيل. ورأى الحمار الأبيض البدين حمارة أنثى ترعى من بعيد بين سيقان الذرة. فنهق نهيقا أجهش ممتدا، تم رفع رجله الخلفية اليسرى ووضعها، ورفع رجله الأمامية اليمنى ووقف في حافة حافره، وتشاغل بخصل من نبات (السعدة) الريانة التي نمت على حافة الجدول وكأنه قد تبرم بهذه المساومة التي لم يكن ورائها طائل. وعباءته السوداء التي اشتراها في زيارة له للخرطوم، وعمامته من (الكرب) نمرة واحدة، وحذائه الأحمر التي لم تخرج أيدي صناع _(المراكيب ) في الفاشر أجود منه، وحماره الأبيض البدين اللامع ، والسرج الأحمر المذهن، والفروة البنية التي تدلت وكادت تمس الأرض ، كانت صورة مجسمة للكبرياء والغطرسة. ولكن شيخ محجوب لم يحر جوابا، وكان يبدوا في وقفته تلك كالمشدود، يرنو إلى أفق بعيد متناه. ورويدا رويدا خفتت في أدنه ضوضاء (أهل الخير) الذين جاؤوا ليتوسطوا بين التاجر وشيخ محجوب، وخفت صوت الساقية الحزين المتصل. ولف ضباب الذكريات معالم الأشياء الممتدة أمام ناظري شيخ محجوب. الناس والبهائم وغابة النخيل الكثة المتلاصقة، وأحواض الذرى الناضجة التي لم تحصد بعد، والأحواض الجرداء العارية قطعت منها الذرة، وسرحت على بقاياها قطعان الضأن والماعز. كل ذلك تحول إلى أشباح يتراقص في وسطها جريد نخل محجوب. وفي اقل من لمحة الطرف استعرض الرجل حاضره. غدا عيد الأضحى حينما يخرج الناس مع شروق الشمس في ثيابهم النظيفة البيضاء الجديدة، ويصلون مجتمعين على مقربة من ضريح الشيخ صالح. وإذ يعودون إلى بيوتهم تنضح وجوههم بالبشر والسعادة، وتسيل دماء الأضاحي، ويتردد في الحي صدى ضحكاتهم أما هو . ؟ انه لا يملك توبا نظيفا يخرج به إلى الصلاة، وليس عند زوجته غير " ثوب زراق" اشتراه لها قبل شهرين نال منه البلى وتراكمت عليه الأوساخ. أما ابنته خديجة فقد كادت تفتت قلبه ببكائها من اجل ثوب جديد تعرضه على والدتها وتعيد به مع صاحباتها. ومن أين له جنيهات ثلاثة يشتري بها خروفا يضحي به؟وتمتم شيخ محجوب في صوت لا يكاد يسمع، شيئ يشبه التوسل والابتهال: (يفتح الله) وزم شفتيه في عصبية، وعاد بعقله خمسة وعشرون عاما إلى الوراء. إلا ما أعجبه تقلبات هذا الزمن لقد كان يومئذ شابا قويا أعزب لم يبلغ الثلاثين بعد، يعمل في ساقية أبيه مقابل كسوته وشرابه. فلم يكن يحتاج إلى المال، مر بابن عمه إسماعيل، وكان الأخير منهمكا بقلع الشتل ليغرسه في أماكن أخرى من ارض الساقية. ووقع نظر محجوب على شتلة صغيرة رماها إسماعيل بعيدا، على إنها خالية من (الأضراس) لا تصلح. فالتقطها محجوب ونفض عنها التراب، وقال لابن عمه ضاحكا: باكر تشوف دي تبقى تمرة زي العجب *. وعلى حافة الجدول وقريبا من الساقية، شق محجوب حفرة صغيرة ووضع فيها (النخيلة) وواراها التراب وفتح لها الماء بعد ا ن تلا آيات من القرآن وردد في شيء من الخشوع. مثلما يفعل أبوه كلما غرس شتلة أو حصد نبتا. ولم ينس أن يصب في الحفرة قليلا من ماء الإبريق الذي يتوضأ بها أبوه تيمنا وتبركا. وانتزع محجوب غصة صعدت في حلقه، تم مرر أصابع يديه النحيلة المعروقة بين شعيرات لحيته المتفرقة. إلا ما كان أبرك ذلك العام! بعد ستة أشهر فقط من غرس (النخيلة) تزوج ابنة عمه، ولم يكن يملك من مال الدنيا شروى نقير. انه لم يكن يظن أبدا انه سيتزوج في يوم من الأيام، وهو الذي عاش أيام صباه منبوذا محتقرا من أهله مجفوا من الحسان، وطالما ترنم وهو يخوض الماء في لذعة البرد، عاري الرأس عاري الصدر: الدنيا بتهينك والزمان يرويك ووضع على رأسه الضريرة، وأحاطت به الصبايا يهجزن بالأغاني. ولكم شعر بالعظمة والكبرياء وقتها. كل ذلك بعد غرس النخلة بستة أشهر وفي العام التالي ولدت زوجته بنتا اسماها آمنة تيمنا بمقدمها، ووفاء لذكرى جدته التي كانت تعطف عليه من بين أهله جميعا، وحينما وصل به تيار الذكريات لمولد آمنة، ترقرق في عينيه الدمع. اين الان آمنة؟ انها زوجة لابن أخته، الذي حملها إلى أقاصي الصعيد في الجزيرة، ليت حسن كان مثلها عطوفا بارا . حسن! وعض الرجل على شفته السفلى بعنف حتى كاد يغرس أسنانه في لحمها المتهدل. سافر قبل خمسة أعوام إلى مصر، ومن وقتها لم يرسل لهم حتى خطابا واحدا يطمئنهم فيه عن صحته. لقد حاول الرجل جاهدا أن ينساه، وكانت زوجته تبكي كلما ردد محجوب في صوت حزين متهدج بيت الدوبيت الذي كان له خير سلوى، وكلما تمثل ابنه طفلا صغيرا حلوا يبول في حجره، تم شابا يافعا يشب عن الطوق، وينسى حقوق الأبوة ، أجل والله-( الزول ا ن اباك خليه واقنع منه، وكم لله من دفن الجنى وفات منه). وكأن القدر أراد أن ينسيهم كل شيء يربطهم بحسن، فرمى آخر ما في جعبته من سهامه قاسية مسمومة ظل يسددها مند عامين، وأصاب السهم الأخير النعجة ( البرقاء) التي رباها حسن، وجمع لها الحشيش وأشركها طعامه وانامها فراشه. ماتت وما عادت تثغو في بكرة الصباح حين كان حسن يقفز نشيطا خفيفا من فراشه فيطعمها ويسقيها ويأخذها معه إلى الساقية، ترعى وتمرح وتتلف الزرع ريثما يفرغ هو من عمله. ماتت، وكذلك اجتاح المحل والقحط كل القطيع الذي رباه شيخ محجوب. وجه محجوب . وغابة المرارة التي أحدتها ذكر حسن عندما تذكر الرجل قطيع الغنم الذي رباه في ذات العام شهد مولد آمنة. قطيع كامل من نعجة واحدة اشتراها بما تجمع عنده من تمن حيضان البصل. كان يعاملها كما يعامل أبناءه، يحلب لبنها بنفسه ويكوم القش من مراحها ويفك لها صغارها ويلبت الساعة والساعتين يداعبها وينظف وبرها، وتتناطح فيما بينها. يعرف كل واحدة منها بسيماها ذات الذيل الأبيض، والخروف ذو القرون الملتوية. وبعد عامين من زواجه اشترى عجلة صغيرة عجفاء والاها بألم وبالحبوب حتى صارت بقرة جميلة كحيلة العين لها غرة في جبينها تجر الساقية وتدر اللبن. أول شيء يمتلكه في حياته. وسارت الحياة رغدا كأنما استجاب الله دعاءه يوم شق في الأرض على حافة الجدول وغرس النخلة. لقد استغنى عن أبيه وبنى لنفسه بيتا يؤويه مع عائلته وصار ثريا يعد المالك مثل أي تاجر، يجلس في السوق منتصبا تملأه الثقة أمام كوم الذرة، وصار يلبس النظيف ويأكل الطيب، وينام على الفراش اللين ويتدثر في برد الشتاء ببطانية ثقيلة من الصوف انفق فيها جنيهين. وحينما كان الناس يتبرعون في الأعراس بخمسة قروش كان هو يتبرع بعشرة، وبزجاجة مليئة بسمن الضأن النقي، وكيلة من أجود أنواع التمر(القنديل) حتى يلقب بالظريف بعد أن كان يلقب بالغبي. ولولا تعلقه بزوجته لتزوج بنتا بكرا يتهافت عليها خيرة شباب البلدة. ويبس الضرع، وعم القحط فاغرق الرخاء، فحبا الشيب فطفى على الشباب، وكان النيل يفيض بين ضفتيه زاخرا موارى، يسقي الأرض ويخرج ما في بطنها من الخير، فما عاد يفيض إلا بحساب ومقدار، أتراها الخزانات التي أقاموها عليه فحجزت الماء؟أم تراها نبوءة الشيخ ود دوليب تحققت؟ لقد أنذر الناس في يوم من الأيام انه سيأتي عليهم يوم، يصير فيه اللبن كثير تافه مثل الماء، وتصير كيلة الذرة بقرشين ويصبح تمن النعجة ريالين. ولكن الناس كدأبهم أبدا سيضيقون بهذا الخير، وسينهمكون في الغي وينسون الله؟ فيأخذهم الله في ذنوبهم. وحدث نفسه بأنه لم يرتكب كثيرا من المعاصي. صحيح انه كان يشرب الخمر أحيانا ويرقص في الأعراس ويخالس الحسان النظر على غفلة من أم حسن. ولكنه لم يؤخر فرضا ولم يهتك عرضا ولم يفعل شيئا من هذه المعاصي التي يقول عليها فقهاء القرية أنها كبائر وتغضب الله. لابد انه الكبر الذي فت في عضده وأرخى من مفاصله فما عاد يحتمل لدغة البرد ولا قائظ الحر. فبدده أول بأول . وفي غمرة أتعابه ومرير شيخوخته هجره ابنه حسن، وهو أحوج ما يكون إلى ساعده الفتي. فاستدان ورهن وباع. وليس عنده اليوم من مال الدنيا إلا بقرة واحدة وعنزتان وهذه النخلة التي ظل جاهدا استبقاءها. وقطع عليه ذكرياته نهيق حمار التاجر، وقال لمحجوب ان عشرين جنيها ثمن معقول، خاصة وهو أحوج ما يكون إلى المال. وفكر الرجل برهة مترددا بين الرفض والقبول. ويكسوا نفسه واهل بيت. ولكن ريحا قوية هبت تتلاعب بجريد النخلة، فاخذ يوشوش ويتعارك ويتلاطم كغريق يطلب النجاة. وبدت النخلة لمحجوب في وقفتها تلك رائعة وأجمل من أي شيء في الوجود. وهفا قلبه لابنه في مصر. ترى هل يحنلنداء الرحم؟ هل تؤثر في قلبه الدعوات التي أرسلها محجوب في هجأة الليل، وأحس الرجل بفيض من الأمل يملا كيانه ويطغى على إحساسه، أنا تمرتي ما ببعها). وردد الرجل في نفسه (يفتح الله)، وقاده ذلك إلىالتفكير في سورة الفتح من القرآن الكريم- (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) –الفاتحة- الفرج، وأحس لأول مرة بان في كلمة (يفتح الله)شيئا اكتر من كلمة تنهي بها المبايعة، وتقفل الباب في وجه من يريد الشراء. إنها مفتاح لمن أعسره الضيق وأمضاه البؤس واثقلت كاهله أعباء الحياة. وما كان أحوج محجوب إلى الفتح والفرج حينئذ وجذب التاجر عنانحماره في صلف، ثم همز بطن الحمار بكعب رجله، يفتح الله، باكر تجي تدور الدين وقبل أن يغادر أبصر محجوب ابنته الصغيرةتهرول نحوه مضطربة فرحة. بل أسرع نحوها يسألها عن الخبر شنو، دالو ودست البنات من مسر. وداب لنا معاه دواب من حسن اخوي) جواب من حسن وانطلق الرجل كالمجنون لا يفكرولا يعي بنبض قلبه معربدا- بين جنبيه. يطغى الأمل بين حناياه مرة على اليأس تارةفيغرق الأمل. وابنته الصغيرة تمسك بطرف ثوبه المتسخ، وتسرع جاهدة لكي تمشي معه، وهي أثناء ذلك تتباكى محتجة على خطوات أبيها المسرعة. وفي بيت _ناس ست البنات) انتظرمحجوب بين صفوف المستقبلين. تجاذب اليأس ويغالبها اليأس. ولم تخطئ عينيه الشاب الذي عاد من مصر، ودست البنات يرتدي ملابس نضيفه ككل عائد من السفر ، ويتكلم لهجة غريبة علىشيخ محجوب، بادي الثقة بادي الكبرياء. وأخيرا لمح الشاب شيخ محجوب بين المستقبلينفدلف نحوه مبتسما. إذ تحولت كل الأبصار نحوه. ولم يعيشيخ محجوب من كلامه يحدثه إلا(حسن مبسوط – قال له تعفي عني. ارسل له ثلاثين جنيه وطرد ملابس) وفي الطريق إلى بيته تحسس الرجل رزمة المال التي صرها جيدا في طرف ثوبه، تمغرس أصابعه في الطرد السمين تحت إبطه ، وانحدر طرفه في عل إلى غابة النخل الكثيفة،