نجح الجابري وإلى حد كبير في تعرية لاعقلانية خطاب النهضة، هذا الخطاب الذي ربط تقدم العرب بسقوط الغرب، كما لو أن الغرب لم يكن ذاك الذي أيقظهم من سباتهم الحضاري. لكن الجابري يخطئ في رأيي حين يساوي بين السلفي والليبرالي العربي، ويرى أن كلاهما يعتمد التقليد، تقليد السلف أو تقليد الغرب. لهو سياسة كل عقل براغماتي يريد اللحاق بزمن العالم ولنا في التجربتين الهندية والصينية خير مثال . في حين يتضمن رفض التقليد، رفضا للآخر في نهاية المطاف و للتطور وانكفاء على الذات. إنني لا أعتقد بوجود استقلالية بدون قدرة على التقليد، أي بدون انفتاح مبدع وخلاق على الآخر، يعد الجابري من المفكرين العرب الكبار القلائل الذين نجحوا في المزج بين التراث والحداثة، لاسيما في ثلاثيته الشهيرة حول العقل العربي. إن المصطلحات التي يصادفها الجابري في كتابات النهضويين والقوميين والتي ينادي بإعادة تحليلها وتفكيكها، يجب أن لا تنسينا تفكيك بعض من مصطلحاته، ومنها فهمه السلبي للتقليد ورؤيته المتحفظة إلى الغرب. لهذا أعتقد أن أصدق دعوة إيديولوجية داخل الإطار الفكري العربي هي دعوة عبد الله العروي إلى الاستفادة من مكتسبات الليبرالية لمواجهة السلفية وهو ما لم يدركه الجابري إلا جزئيا ، لأنه ظل مسكونا بوهم"الاستقلال الذاتيّ"، بل دعونا نصغي قليلا للجابري، الذي كتب في "الخطاب العربي المعاصر" يؤكد مرة أخرى ، رغم نقده لمخاتلات هذا الخطاب أن إسرائيل أكبر خطر على الوجود القومي العربي من المحيط إلى الخليج. ألا يندرج هذا الرأي في إطار ما وصفه الجابري نفسه بالغربة عن الواقع، بالميتاواقعية واللاعقلانية؟إن انحصار الجابري في إطار قومي ، كان له أكثر من نتيجة سلبية .أولا: الاخفاق في معرفة أن الآخر ولنقل الغرب، جزء ومكون إيجابي لنظام الأنا. وأن التقليد المبدع للغرب سيجعلنا ننتقل من "الخطاب الإشكالي" و"الخطاب الماورائي" إلى خطاب إيجابي يرى أن طريق التقدم رهين بقدرتنا على التعلم من الأمم المتقدمة. ثانيا: رغم نقد الجابري لتهافت الخطاب القومي، أغفل في تقديري خطورة أهداف هذا الخطاب. لم يعمد إلى تفكيك أهدافه، مشروع الوحدة والإشتراكية وتحرير فلسطين، وكلها أهداف وشعارات رفعت لتكميم أفواه المطالبين بالحرية والعدالة والخبز ورفع نظام الطوارئ، لقد نجح الجابري في تفكيك سلطة النموذج ـ السلف كخطاب، بل ما يجب أن ننجزه يدور في فلكه وهو ينادي بعقلنة من الداخل إن "نقد العقل العربي" ليس ما أنجزناه فقط باستمرار، تجده يتوقف في نصف الطريق، غير قادر على المضي قدما في معركته مع الظلام والوهم ولعل هذا موضع الخلاف الكبير بين الثقافة العربية والثقافة الغربية، التي لا تتوقف عن مراجعة أسسها الفكرية وعن مراجعة إنجازاتها الكبرى كالحداثة والعقلانية والديمقراطية والعلمانية الخ. ولم يضرها يوما الاعتراف بأخطائها، حتى أضحى النقد عقيدتها وهو ما نعدمه جملة وتفصيلا في ثقافتنا.