تَحَلَّقَتِ الْأَسْرَةُ وَالْأَقْرِباءُ، وَآخَرُونَ، حَوْلَ النَّارِ، أَسْفَلَ الْجَبَلِ الشَّامِحَ ذِي الْقِمَّةِ الْمُسَنَّنَةِ. وَخَيَّمَ الْوُجُومُ عَلى أَفْكَارِ أَفْرادِها ، وَخَبَتْ فِي عُيونِهِمْ أَنْوارُ الْمُسْتَقْبَلِ . السَّاعَةُ سَاعَةُ سَحَرٍ، وَالْيَوْمُ يَوْمُ نَصْرٍ أَوْ هَزِيمَةٍ. والْجَبَلُ كَالْمَارِدِ شامِخٌ، منتَصِبٌ، يَنتَظِرُ مَنْ يَتَحَدَاهُ، وَيَتَسَلَّقُهُ . وَحَدَثَ أَنْ سَكَنَتِ النَّارُ قَلِيلًا، وَبَهِتَ نورُها ، فَقَذَفَ أَحَدُهُمْ بِقَبْضَةِ عُشْبٍ جَافٌ اسْتَقَرَّتْ في أَتُونِها والْتَهَبَتْ وَعادَ النُّورُ يَسْطَعُ مِنْ جَدِيدٍ، فَأَضَاءَ وُجُوهَ أَفْرَادِ الْأَسْرَةِ، وَأَظْهَرَ مَلامِحَهُمْ : كُلُّهُمْ كانوا خائِفِينَ إِلَّا وَاحِدًا، هوَ أَكْثَرُهُمْ فَتُوَّةً، وَأَمْلَؤُهُمْ حَيَوِيَّةٌ، وَأَشَدُّهُمْ عَصَبًا وَعَضَلًا وَجَلَدًا ، شابٌ قَوِيٌّ جَميلٌ ، تَلْمَعُ في عَيْنَيْهِ نَظَرَاتُ التَّحَدِّي، وَتَنْفِرُ في عَضَلَاتِهِ عُروقُ الثَّقَةِ وَالْعَزْمِ . أخيرًا ، انْصَدَعَ الْفَجْرُ ، وَظَهَرَ هَيْكَلُ الْجَبَلِ وَاضِحًا . فَأَشَارَ إِلَيْهِ الشَّابُ بِيَدِهِ، حِجَارَةٌ لَنْ تَعْصَى عَلَى الْبَشَرِ. وَعَلَى الرَّغْم مِنْ أَنَّ تَمْتَمَةَ الشَّابِّ ارْتَفَعَتْ عَنْ مِقْيَاسِ الْهَمْسِ، فَإِنَّ أَحَدًا مِنَ الَّذِينَ يَجْتَمِعُونَ حَوْلَهُ لَمْ يَسْمَعْهُ. وَلَكِنَّهُ ، هوَ، سَمِعَ كُلَّ التَّعْليقاتِ الْمُحْبِطَةِ لِلْعَزِيمَةِ الَّتِي هَاجَمَتُهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ وَصَوْبٍ . سَمِعَ جَدَّهُ الْعَجوزَ يَقُولُ : لَنْ يَصِلَ أَبَدًا . سَيَصْعَقُهُ الْبَرْدُ، وَسَتَرْتَجِفُ رُكْبَتاهُ تَحْتَ الْأَثْقَالِ . وَأَصْغَى أَيْضًا إلى أبيهِ حِينَ هَتَفَ : - رَبَّيْتُهُ حَتَّى يُعينني على شيخوختي، كما أعين أنا أبِي الْيَوْمَ عَلَى شَيْخوخَتِهِ، وَهَا هُوَ الْآنَ يُضَحِّي بِنَفْسِهِ عَلَى طَرِيقِ الْمَجْدِ الزَّائِفِ . أَمَّا أُمُّهُ ، أُمُّ الشَّابُ، فَوَلْوَلَتْهُ» قَبْلَ أَنْ يَسْقُطُ، - وَلَدَاهِ! حَبيبي، خَلَمْتُ بِكَ الْبَارِحَةَ تَسْقُطُ مِنْ خَالِقٍ، وَيَرْتَطِمُ رَأْسُكَ بِالصَّخْرِ، وَيَتَناثَرُ . أَوَاهُ وَلَدِي انْتَظِرُني إلى أن أموت، ثُمَّ افْعَلْ ما يَحْلُو لَكَ . والْجَدَّةُ، جَدَّتُهُ ، كَانَتْ تَبكي تارَةً، وَطَوْرًا تُصَلِّي وَشَقِيقاتُهُ نائِحات . ضاقَ صَدْرُ الشاب بِما سَمِعَهُ، فَغَلَتْ دِمَاءُ الْفُتُوَّةِ فِي عُروقِهِ. وَانْفَجَرَ يُعْطِي رَأَيْهُ، - كُلُّكُمْ تُريدونَ الْبَقَاءَ تَحْتَ الْغُيوم. أما أنا فأريدُ الْوُصولَ إِلَى أَعْلَى الْجَبَلِ لِأَصْبَحَ فَوْقَها . وصَمَتَ الشَّابُ. وَلَكِنَّ كَلِمَاتِهِ كَانَتْ مُقَدِّمَةٌ لِتَدَخُلِ الْأَصْدِقَاءِ، وَالْأَحِبَّاءِ، وَذَوِي الْقُرْبي . فَتَضَارَبَتْ تَعْليقاتُهُمْ . تَقَدَّمَ الصَّديقُ ، صَدِيقُ الشَّاب، أَوَّلًا، - رُوَيْدَكَ . حَكْمِ الْعَقْلَ ، يَا أَحَبَّ مِنْ أَخِي . - لا تَذْهَبْ مَنْ يَطْلُبْ تَسَلَّقَ الْجِبَالِ، فَلَنْ تَرْحَمَهُ الْمَخاطِرُ ارْضَ بِعَيْشِكَ كَمَا يَرْضَى بِهِ أَبْناءُ أَعْمَامِكَ ، وَعَمَاتِكَ ، وَخالاتِكَ، وَسَائِرُ الشَّبانِ مِنْ أَقْرِبائِكَ . وسَمِعَ الشَّابُّ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ كُلَّ شَيْءٍ فَهِمَ فَقَطْ أَنَّهُ يُرِيدُ التَّسَلَّقَ . بَزَغَتِ الشَّمْسُ، فَارْتَفَعَتْ قَامَةُ الشَّاب تُطاوِلُ إِشراقها. دَقَّتْ سَاعَةُ الصَّفْرِ، فَدَقَّتْ مَعَهَا الْأَفْئِدَةُ الْحَائِفَةُ، وَعَاصَتْ فيها القُلوبُ . مشى الشاب بخطاهُ السَّرِيعَةِ الْواثِقَةِ إِلى عُدَّتِهِ. شَدَّ حِرَامَ جَعْبَتِهِ إِلَى صَدْرِهِ. تَأَبَّطَ كَلالِيبَهُ، وَالْتَفَتَ إِلَى الْمَوْجودينَ بَاسِمًا مَوَدِّعًا . وَفِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ نَفْسِها ، انْفَجَرَ جَوَ الْكَبْتِ والتَّصَنُّعِ، وَهُرِعَتِ الْأَيادِي الْمُرْتَجِفَةُ، وَمِنْ كُلِّ جَانِبِ، تُمْسِكُ بِهِ ، تَشُدُّ بِهِ إِلَى الْوَراءِ ، تُقَلْقِلُ عَزْمَهُ، وَتُشَوِّشُ أَفْكَارَهُ ، أَيادٍ جَبَارَةٌ، كادَتْ تُسْقِطْهُ إِلَى الْأَرْضِ، لَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ أخيرًا مِنْ تَحرِيرِ نَفْسِهِ، فَأَصْلَحَ مِنْ وَضْعِهِ، وَبَاشَرَ رِحْلَةَ الْمَجْدِ الْمَحْفُوفَةَ بِالْمَخَاطِرِ . سارَتِ الرِّحْلَةُ، رِحْلَةُ الشَّاب، هادئةً في مَظَاهِرِها ، ثائِرَةً فِي أَعْمَاقِها ، بَعْدَما نَجَحَتِ الْأَسْرَةُ، وَسَائِرُ الْمَوْجودينَ، فِي قَلْقَلَةِ صُحُورِ عَزِيمَةِ الْفَتَى الثَّابِتَةِ، وما إِنْ بَدَأَ التَّسَلَّقُ يَزْدَادُ صعوبة، والرِّياحُ الثَّلْجِيَّةُ تَصْفَعُ وَجْهَ الْمُتَسَلِّقِ الشّابُ، حَتَّى رَجَعَتْ إِلَى ذَاكِرَتِهِ مَشَاهِدُ الْوَدَاعِ أَسْفَلَ الْجَبَلِ. فَأَحاطَتْ بِهِ الْأَفْكَارُ، وَتَقاذَفَتْهُ الْهَوَاجِسُ، فَخُيْلَ إِلَيْهِ أَنَّ دُمُوعَ أُمِّهِ وَشَقِيقاتِهِ مَزالِقُ يَهْوِي فَوْقَها ، وَكَلِمَاتِ أَبِيهِ حِبالٌ تَخْلُقُ ضَمِيرَهُ، وَجُمْلَةَ جَدِّهِ تُثْقِلُ شَبَابَهُ بِمِئَةٍ مِنَ الْأَعْوامِ. أَمَّا صَلاةُ جَدَّتِهِ فَنَذِيرٌ بِالشَّوْمِ الْوَيْلِ. كَما أَبْصَرَ نَفْسَهُ، وَبِعَيْنِ الرُّؤْيَا أَيْضًا، يَهْوِي مِنْ خَالِقٍ، بَيْنَمَا كَانَ أَبْناءُ أَعْمَامِهِ، وَعَمَاتِهِ، وَخالَاتِهِ، يَأْكُلُونَ، وَيَشْرَبُونَ، وَيَسْمَعُونَ، وَيَتَزَوَّجُونَ، وَيُنْجِبونَ . تَشَرْدَمَتْ عَزِيمَتُهُ، وَانْقَسَمَتْ قَراراتُهُ بَيْنَ خُيوطٍ تَشُدُّ بِهِ نَحْوَ الْعَلَاءِ، وَحِبَالِ تَجُرُّهُ نَحْوَ الترابِ. وَمَا إِنْ وَصَلَ إِلى بِدَايَةِ نِهَايَةِ الرِّحْلَةِ، وَهِيَ صَخْرَةٌ شَاهِقَةٌ، مَلْسَاءُ الْجَوَانِبِ، حَتَّى أَدْرَكَ أَنَّهُ وَصَلَ أَخيرًا إلى حُدودِ الاِخْتِيَارِ بَيْنَ السُّقوط أو الاستمرار. فاختار الانتصار. وَمَزَّقَتْ أَظْفَارُهُ الصَّخْرَ الْأَصَمَّ ، وَهوَ يَغْرِزُ، في أعلى الْقِمَّةِ، رَايَةَ النَّصْرِ الْحَمْرَاءَ الَّتِي خَفَقَتْ بِهَزِيمَةِ الْخِذْلانِ وَالْهَزِيمَةِ .