مقال جدلي حول مشكلة الحتمية نص السؤال :هل الحتمية مبدأ مطلق ؟ هل يمكن إخضاع المادة الجامدة لقانون ثابت ( الحتمية) ؟ هل ظواهر الطبيعة تخضع للحتمية خضوعا تاما ؟ خاصة وأن التجربة أصبحت تعد منطلقا عند الكثير من الدارسين من أجل منح المعارف صفة العلمية انطلاقا من إيمانهم أن الكون خاضع لنظام ثابت يتيح فرصة التنبؤ بالمعنى الدقيق . لكن إذا كانت الأبحاث العلمية في القرن التاسع عشر قد حصرت الطبيعة في قانون ثابت ( الحتمية ) فإن الدراسات المعاصرة حطمت هذا الاعتقاد وأصبحت تتعامل من منظور الاحتمال. وهو الأمر الذي شكل محور تعارض بين الفلاسفة والمفكرين والعلماء بين من يرى أن الحتمية مبدأ مطلق تخضع له كل ظواهر الطبيعة و من يرى بأن الحتمية مبدأ نسبي لا تخضع له كل ظواهر الطبيعة. و أمام هذا التعارض و الجدال الواقع بينهم فإن الإشكال الذي يمكننا طرحه هو : هل يمكن اعتبار الحتمية أنها مبدأ مطلق ؟ أم أن العلم يخضع لفكرة اللاحتمية ؟ هل يمكن إخضاع المادة الجامدة لقانون ثابت ( الحتمية) ؟ -العرض:(محاولة حل المشكلة ) عرض منطق الأطروحة : "إن ظواهر الطبيعة تخضع لمبدأ الحتمية خضوعا مطلقا" وتكرار نفس الشروط ضمن نفس الظروف سوف يؤدي إلى نفس النتائج حتما مما يتيح فرصة التنبؤ بحدوث الظواهر قبل وقوعها " هذا يعد قانونا علميا ورفضه يعني إلغاء العقل و العلم . إن التجربة أكدت انه لا مجال للشك في النتيجة القائلة " أن الماء يتبخر عند الدرجة مئة أو يتجمد عند الدرجة الصفر " لان بداهة العقل وحتمية الواقع فرضت هذا الصدق . إذ لولاها لما أمكن للعلم أن يكون " " العالم الذي لا تسوده الحتمية هو موصد في وجه العلماء " نفس الطرح وجد عند " كلود برنارد " حيث أكد أن تقبل أية ظاهرة خارج نطاق الحتمية يعد إنكارا للعلم . وفي ذلك يقول " الكون هو آلة كبيرة يمكن التنبؤ فيه بكل ما سوف يحدث مستقبلا " و يضيف أيضا " ينبغي أن نعتبر الحالة الراهنة للكون نتيجة لحالته السابقة و سببا في حالته اللاحقة التي تأتي من بعد ذلك مباشرة . لأصبح المستقبل ماثلا أمامه " و يقول بدوي" لسنا في حاجة إلى دراسة كل الظواهر في المكان بل يكفي أن نقوم بتجربة على مجموعة من الظواهر في هذا المكان لكي نعمم الحكم فنجعله صالحا لكل زمان ومكان" نفس الطرح وجد عند " غوبلو " حيث قال " العالم متسق تجري حوادثه على نظام ثابت " ، وهذا يعني أن كل الظواهر الطبيعية سواء كانت تنتمي إلى العالم الأكبر ( الماكر وفيزياء ) أو كانت تنتمي إلى العالم الأصغر ( الميكروفيزياء ) فإنها تخضع لمبدأ الحتمية لأنها في الأصل مقيدة بفكرة السببية التي تعني أن لكل ظاهرة علة أدت إلى وجودها . على الرغم من أهمية طرح هؤلاء إلا انه لا يمكن التصديق بما ذهبوا إليه , فالحقيقة أن الضبط الدقيق للظواهر يكون في حالة بلوغ الملاحظة قمة اليقين وهذا مستحيل . كما أن تعامل فيزياء القرن العشرين مع الظواهر المتناهية في الصغر أدى إلى الاقتناع بفكرة الاحتمال . عرض نقيض الأطروحة: "مبدأ الحتمية ليس مطلقا ولا يحكم جميع الظواهر الطبيعية" إن الحتمية مبدأ نسبي لا يحكم جميع ظواهر الكون فقد توصل علماء الفيزياء في القرن العشرين إثر دراستهم للظواهر الميكروفيزيائية إلى مسلمة أساسية مضمونها انه يصعب دراسة ويستحيل التنبؤ بالمعنى الدقيق . أصبحت حقيقة علمية مع (ماكس بلانك ) و يتجلى ذلك من خلال قوله " قبل كل شيء علينا أن نعترف أنه ليس من الضروري أن يخضع الكون إلى قوانين فيزيائية ثابتة , كما أشار الفيزيائي الانجليزي ( ايدجنتون ) إلى أن تقدم العلم جعل الدفاع على مبدأ الحتمية المطلق مستحيلا . أي يصعب معرفة موقعه و سرعته في زمن لاحق " حيث يقول هيزنبرغ " كلما تم التدقيق في موقع الجسيم كلما غيرت هذه الدقة كمية حركته و بالنتيجة سرعته و كلما تم التدقيق في قياس كمية حركته كلما إلتبس موقعه" و يقول كذلك"إن الضبط الحتمي الذي تؤكد عليه العلية و قوانينها لا يصح في مستوى الفيزياء الذرية" نفس الطرح نجده عند ( لويس دو بروي ) الذي يقول " حينما نريد في المجال الذري أن نحصر حالة الأشياء الراهنة حتى نتمكن من التنبؤ على مستوى الظواهر المستقبلية بدقة أشد , و يؤكد ( جون كميني ) " في كتابه العلم و الفلسفة " أن كثيرا مما نطلق عليه اسم القوانين العلمية هو إما صحيح بشكل تقريبي أو خطا في كثير من الأحيان . و عدم القدرة على دراسة الإلكترون بالمعنى الدقيق لا يعد سببا في رفض الحتمية لان ذلك هو رفض لقيمة العلم و مبادئ العقل الثابتة . هذا التوفيق بين الطرحين عبر عنه أنصار الحتمية المعتدلة في أن مبدأ الحتمية نسبي و يبقى قاعدة أساسية للعلم ، فقد طبق الاحتمال في العلوم الطبيعية و البيولوجية وتمكن العلماء من ضبط ظواهر متناهية في الصغر واستخرجوا قوانين حتمية في مجال الذرة و الوراثة ، خاتمة ( حل الإشكالية ) : وبعد التحليل يمكن ان نستنتج ان الحتمية المطلقة وأنصار اللاحتمية يهدفان إلى تحقيق نتائج علمية كما أن المبدأين يمثلان روح الثورة العلمية المعاصرة ، لكن من جهة المبدأ العام فإنه يجب علينا أن نعتبر كل نشاط علمي هو سعي نحو الحتمية إذ يعتبر "غاستون باشلار" بأن مبدأ اللاتعيين في الفيزياء المجهرية ليس نفيا للحتمية ،