أبو العتاهية أبو العتاهية إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان شاعر كوفي ولد بالكوفة ونشأ بها . وهو مولى من الموالى ، ويرجح الباحثون أنه من الأنباط الذين كانوا يعيشون حول الحيرة . تفتحت عيناه على الحياة في الوقت الذي كانت الدولة الأموية تغمض فيه عينيها ، إذ ولد في سنة مائة وثلاثين قبيل سقوط الدولة الأموية بعامين وشهدت طفولته تلك الحياة السياسية المضطربة التي عاش فيها المجتمع الإسلامي عقب الانقلاب العباسي، وشهد بعينيه الصغيرتين رؤوسا تتطاير وأشلاء تتناثر وأرواحاً تزهق ودماء تسيل ، وانطبعت هذه الصورة القائمة السوداء في نفسه منذ هذا الوقت المبكر من حياته . وهى صورة حجبتها الحياة عنه فترة من الزمن حين كان العود ريان الشباب مخضر الإهاب، ولكنها عادت فظهرت قوية واضحة حين أخذت حياته تنحدر نحو الغروب في هذه الفترة المبكرة من حياته انطبعت في نفسه صورة قائمة المصير الإنسان في الحياة ، ذلك المصير الذي شغله فترة طويلة ، وملأ نفسه بالتشاؤم منذ أن أخذ ينحاز عن الجانب المشرق من الحياة إلى الجانب المظلم في عزلته بعيداً عن موكب الحياة والأحياء ومضى يضرب في شعاب الحياة اللاهية . ثم في صدر شبابه مر بتجربة نفسية كان لها أعمق الأثر في حياته وفنه بعد ذلك، فقد تعلق قلبه بحب فتاة نائحة اسمها سعدى، ومضى يضرب معها في شعاب الموت والنواح والسواد ، واصطبغت نفسه في هذا الوقت المبكر من حياته بالتشاؤم الذي كان يثيره في نفسه حديث الموت الذي كان يتردد على شفتي هذه النائحة الحسناء . ثم حيل بينه وبينها ، إذ وقف مواليها في وجهه وحالوا بينه وبين السعادة التي كان يظنها تتحقق له في جوارها . وصدم أبو العتاهية في أول تجربة عاطفية له ، واندفع في أثر هذه الصدمة نحو حياة لاهية متحللة يشارك فيها عصابات المجان الذين كانوا يملكون مدينته . ومضى يسيم سرح اللهو حيث يسيمون ، ويغرق نفسه في كؤوس اللهو والحجون التي كانوا يغرقون فيها أنفسهم. وقضى فترة من شبابه يحيا حياة متحللة ماجنة يرافق فيها أبا تواس وأضرابه من أولئك الشعراء المجان الذين كانت تزخر بهم مدن العراق في ذلك الوقت . وكان أبو العتاهية في هذه الفترة من حياته يعمل جزارا يصنع الجرار الخضر ويبيعها في الكوفة ، وفي هذه الحرفة رأى أبو العتاهية مرة ثانية صورة المصير الإنسان في الحياة ، فهذه الطينة البكر التي يأخذها بين يديه ليسويها جرارا متعددة الأشكال مختلفة الأحجام ، فبعضها إلى قصور الأمراء حيث الغنى والشراء والشرف، وبعضها إلى أكواخ الفقراء حيث الفقر والشقاء والشظف ، لكن المصير في الحالتين واحد ، إنه العودة إلى التراب الذي صنعت منه اليست هذه هي قصة الحياة ؟ من التراب خلق الإنسان ، ثم ألقى به في الحياة لتبلوه وتخبره ويتفاوت حظه ، فشقى وسعيد ، ولكن مصير الاثنين في النهاية واحد ، إنها العودة إلى التراب الذي خلق منه في هذه الفترة أخذ أبو العتاهية ينظم الشعر، وبدأ نجمه يلمع ، وأخذت ناشئة الأدب تسعى إليه لتأخذ عنه الشعر وترويه له. ويحدثنا الرواة أن هذه الناشئة كانت تقصد إليه حيث يصنع الجرار ويبيعها ، وأنها كانت تكتب شعره على ما يتناثر من جراره من قطع الحرف . ثم أراد أبو العتاهية أن يجرب حظه في الحياة شاعرا ، ولمعت أمام عينيه بغداد التي كانت تتألق بأضوائها ، فتجذب إليها العناصر الطامحة من أرجاء المجتمع الإسلامي كله . وشد أبو العتاهية رحاله إلى بغداد . وكان هذا - في أغلب الظن - في أوائل خلافة المهدي . وقبل أن يتصل أبوم العتاهية بالمهدى، وفي أثناء تلك الفترة التي قضاها في بغداد قبل أن يؤذن له بالمثول . میں بدى الخليفة ، مرت به تجربة عاطفية أخرى، فقد أحب عتبة جارية الخليفة حباً ملا عليه كل أرجاء نفسه ، حتى لتوشك أن تكون هي الفتاة الأساسية في حياته ، أو تلك الدمية الجميلة التي يصفها بأن الله لما رأى جمالها خدا بقدرته حور الجنان على مثالها . ومضى أبو العتاهية يصرح بحبه لها في شعره ، ولم يتورع عن ذلك حتى في مدحه للخليفة نفسه، إذا كان يبدأ مدائحه فيه بالغزل فيها ، وكأنما كان يظن أنه سيهبها له ولكن الخليفة كان مفتونا بها ، وقضى أبو العتاهية في السجن فترة من الزمن ثم أفرج عنه الشفاعة قام بها خال الخليفة وكان معجبا به . وخرج أبو العتاهية من السجن يجر أذيال الخيبة العاطفية التي لحقته ، ويعاني من صدمة نفسية جديدة أعادت إلى نفسه ذكرى التجربة الأولى والصدمة المبكرة التي لحقته حين أحب سعدى النائحة . وقرر أبو العتاهية بعد هاتين الصدمتين أن يميت قلبه إلى الأبد ، بها إلى الخلفاء العباسيين . وتحول أبو العتاهية إلى شاعر رسمى يؤدى واجبه التقليدي للقصر العباسي في بغداد، فاتصل بالمهدى ثم بابنه الهادى من بعده . ثم بابنه الرشيد بعد الهادي ، وتوطدت صلته بالرشيد حتى أصبح شاعره الرسمى لا يفارقه في سفر ولا في إقامة . وأغدق الرشيد عليه الجوائز والعطابا ، وبدأت الدنيا تقبل عليه ، وبدأت الحياة تبسط له ذراعيها إلى أبعد حدودهما ، وبدأ الذهب يسيل من بين أصابعه ، ولكن كل هذا جاء بعد الغروب - لقد ودع أبو العتاهية شبابه محملا بذكريات حزينة واخذ يستقبل شيخوخته التي لا تصلح لحب ولا للهو ولا لمتعة. وقرر أن ينصرف عن منع الدنيا وملذاتها ، وأن يعتزل الناس ، ويفرض على نفسه حياة تقوم على الزهد والتقشف. ومضى أبو العتاهية في زهده يجاهد نفسه مجاهدة عنيفة ، إذ فرض على نفسه الحج كل عام ، كما فرض عليها اعتزال الناس والميل إلى الوحدة ومفارقة مجالس اللهو والشعر والغزل ، كما كان يفرض على نفسه أحيانا أن يصوم عن الكلام ، ومضى في ثيابه الصوفية الخشنة يمارس هذه الرياضات الروحية حتى ودع الحياة . وفي بداية زهده مرت به محنة من تلك المحن التي كان يمتحن بها ، فقد أمر الرشيد بأن يزج به في السجن والأسباب الحقيقية لهذا السجن ليست واضحة تماما ، فالرواة يذكرون أن الرشيد سجنه لأنه طلب إليه أن يقول شعراً في الغزل ولكنه رفض . وصمم الشاعر على امتناعه ، وأقسم الخليفة عليه ليقولن شعرا في الغزل أو ليسجنن ، وأقسم الشاعر ليصومن عن الكلام كله إلا عن قراءة القرآن وذكر لا إله إلا الله محمد رسول الله لمدة سنة ، وثارت ثائرة الرشيد وألقى به في السجن ثم تختلف الروايات بعد ذلك حول المدة التي قضاها في السجن ، وحول خروجه منه والأسباب التي جعلت الخليفة يعفو عنه، وأنه أخذ يحتال حتى يتحلل من قسمه . ولكن الذي يبدو لي أن هذا السبب الذي يذكره الرواة ليس هو السبب الحقيقي لسجنه ، لأن شعراء الغزل في عصر الرشيد كانوا كثيرين ، ومن الممكن أن يطلب إلى أى واحد منهم أن ينظم له ما يشاء من غزل ، والذي يبدو لي أن الخليفة كان يحاول أن يبعد أبا العناهية عن الأوساط الشعبية التي كان شعره منتشرا بينها انتشارا واسعا حتى لا تتأثر بأرائه التي كان يرددها كثيراً حول الملوك وهوان أمرهم بعد الموت ، وتساويهم في النهاية بالسوقة ، وكان الرشيد كان يرى فيها شيئا يقلل من هيبته في أعين الناس ومنزلته في نفوسهم، ومن هنا كنت أرى أن سجن أبي العتاهية لم يكن إلا صورة من صور تحديد الإقامة فرضها الرشيد عليه ، حتى يبعد به عن الشعب الذى كان يروى شعره ويتغنى به في كل مكان وخرج أبو العتاهية من السجن وقد ألى على نفسه أن يعتزل الناس إلى الأبد وأخذ يجنح إلى الوحدة والعزلة ، وأرسل إلى الخليفة بيئين يعلن فيهما أنه قرر اعتزال الناس والبعد عنهم إلى الأبد . وظل أبو العتاهية طوال حكم الرشيد في عزلته الروحية التي فرضها على نفسه ، حتى إذا مامات الرشيد لم يرثه أبو العتاهية ، وإنما اتخذ من موته موضوعا للعظة والاعتبار، فهذا الملك الجبار الذي كان يخشاه الناس قد انتصر عليه الموت في النهاية وتساوى مع سائر البشر . ثم تضطرب الأمور السياسية ويدور الصراع السياسي بين الأمين والمأمون ، ولم يتصل بالحياة السياسية لا في اضطرابها ولا في استقرارها ، وإنما هو يجاهد نفسه مجاهدة عنيفة ، ويروضها رياضة روحية عميقة ، أما السياسة وأحداثها وأما الحياة والصراع فيها فإنها أشياء قد نفض يديه منها إلى الأبد. ولكن من حين إلى حين كان يخرج إلى معترك الحياة ليشهد اصطراع الناس وهم غافلون عن المصير الذي ينتظرهم ، وليستخلص من ذلك معاني يصورها في شعره الذي بلغ من الذيوع والانتشار درجة كبيرة ، فناشئة الأدب والمتأدبون يفدون عليه في طلب شعره ، والرواة يسجلونه ويحفظونه ، والخليفة نفسه يسعى إليه لينشده من شعره في الزهد والموت والحديث عن المصير، فيعجب ١٠:١٥ م ة ٢٢ مايو ٢٠٢٤ ۲۱:۰۹ اس اس مكافات سخية على الرغم من أنه لا يمدحه كما يفعل سائر الشعراء ، وذلك حتى يضمن له أن يعيش حياة هادئة مطمئنة لا يعكر عليه فيها صفو عزلته الروحية شيء من مشكلات الحياة. وظل أبو العتاهية ينشد شعره في المصير حتى أدركه المصير الذي طالما ردده في شعره في سنة يختلف الرواة حولها ، ولكنها على كل حال تقع في مستهل القرن الثالث ( ٢٠٥ - ۲۰۹ - ۲۱۰ - ۲۱۱ - ۲۱۳ ) ، ولكن السنة التي يذكرها ابنه وهي ۲۱۰ هي السنة التي رجحتها تاريخاً لوفاته في : حياة الشعر في الكوفة ، .. ۲) والفكرة الأساسية فى شعر أبي العتاهية الزهدى هى فكرة المصير : مصير الانسان في الحياة ومصيره بعد الموت ، وتتردد هذه الفكرة في شعره بصورة واسعة ، وهو مشغول بها شغلا كبيرا يعبر عنها في صور شتى وبأساليب متعددة ، يطوف حولها حينا ويتغلغل في أعماقها حينا آخر ، ويعرض علينا منها نماذج مختلفة ، تماما كما كان يفعل في سالف أيامه حين كان يسوى الطيئة الخضراء جرارا مختلفة الأحجام والأشكال ، ولكن جراره الفنية لم تكن خضراً كتلك الجرار التي كان يسويها ، وإنما كانت جرارا سودا قائمة تبعث على التشاؤم ، وتثير في النفس الحزن والانقباض. ويوشك أبو العتاهية أن يكون أهم شاعر عربي شغلته مشكلة المصير ، إلا إذا استثنينا أبا العلاء الذي ألحت عليه هذه المشكلة أيضا وشغلته ، واحتلت قسما كبيرا من شعره ولكنه تفكير ديني يختفى منه الشك والحيرة ليظهر الإيمان واليقين . فالعقل الفلسفي الذي ظهر عند أبي العلاء وسيطر عليه وأثر في شعره يختفى عند أبي العتاهية لتحل محله العاطفة الدينية ومن هنا كان حديث أبي العتاهية عن مشكلة المصير يخاطب الوجدان الإنساني أكثر مما يخاطب العقل الفلسفي - إنه فى حقيقة أمره ليس أكثر من هزة روحية ، ينبه بها أولئك الغافلين الذين اطمأنوا إلى حياتهم الدنيا ، وغفلوا فيها عن المصير الذي ينتظرهم . ولهذا تكثر في شعره تلك الصور التي تثير التشاؤم والانقباض والحزن في نفوس الناس ، وذلك لأنه كان يرى فى إثارة هذه المشاعر الوسيلة الفعالة لتنبيه هؤلاء الغافلين إلى المصير الذي ينتظرهم والتي ستفارقها في يوم من الأيام في رحلة طويلة رهيبة تنتهي بنا إلى الجنة أو إلى النار ؟ هذه هي المشاكل التي شغلت ذهن أبي العتاهية وملأت عليه تفكيره ، ومضى يصوغها في شعره ألوانا مختلفة ، فالحياة عنده - كما هي في القرآن الكريم - دار المتاع والزوال والغرور، وحينا كالضباب لا تلبث أشعة الشمس أن تبدده ، أراك وإن طلبت بكل وجه أو الأمس الذي ولى ذهابا لو ترى الدنيا بعيني بصير إنما الدنيا تحاكي السرايا كحلم النوم أو ظل السحاب وليس يعود أو لمع الشراب إنما الدنيا كفى تولى وكما عاينت فيه الضبابا مثل لمع الآل في الأرض القفار إنما الدنيا غرور كلها والدنيا - في حقيقة أمرها ، وكما يجب أن يتمثلها الإنسان حتى ينجو منها ويفوز بالسعادة في الآخرة - ليست دار إقامة أو استقرار، قلعة ، تقتلع الإنسان مهما يطل عمره فيها : ألم تر أن المرء في دار قلعة إلى غيرها، والموت فيها سبيله وإن طال تعميري عليها وأزمنت أيا نفس لا تستوطنى دار قلعة ولكن خذى بالزاد قبل ارتحالك إنها ليست أكثر من معبر ينتقل عليه الإنسان من شط الحياة الفانية إلى شط الآخرة الساقية ، أو هي مناخ القوم مسافرين ينزلون به ليستريحوا من رحلة شاقة مجهدة ، ثم دام إن داراً نحن فيها لدار كم وكم قد حلها من أناس فهم الركب أصابوا مناخاً ليس فيها المقيم قرار