من الصعب بمكان أن يقدم الدارسون ، تحديدات جامعة مانعة ونهائية لــلأشياء والمفهومات التي يَبْغون تحديدها، لاعتبارات عديدة تحظى بغير قليل من المعقولية والمشروعية. ويقوم مصطلح "الحضارة" ، شاهداً قوياً على ما ذكرناه، ذلك بأن التعريفات المقدَّمة له متعددة ومتنوعة قديما وحديثاً معاً، ويرجع ذلك إلى أمرين رئيسيْن على الأقلّ؛ فأما أولهما فيمْثُل في أن دلالة هذا المصطلح عرفت تحولا واضحا على امتداد تاريخه الطــويل، وأما ثانيهما فيتجلى في اختلاف المعرِّفين أنفسهم وفي تفاوت فهمهم له وفي تباين مشاربهم ومنطلقاتهم النظرية. بعـــد حديثه المسْهَب في مقدمته عن فضل علم التاريخ، ووقــوفه على أغاليط بعض المؤرِّخين، دَلف التِّعْلامة عبد الرحمن بن خلدون الحَضْرمي(ت808هـ) ، إلى تفصيل القول في العمران والتمدُّن والتحضُّر. وذكر أن الاجتماع البشريَّ يُبْتدَأ فيه بالضروريات قبل الحاجيات والكماليات، وأن البدو يجْرون وراء تحصيل ما هو ضروري في حياتهم دون أن يتجاوزوه، على حين يسـعى الحضَر إلى ما فـوق الضـروري من الأشياء والمُتـطَلّـَبات، وأن أجيال البدوو الحضَر طبيعـــية وضرورية لقيام العمـــْران البشري. قال ابن خلدون: "أهل البدو هم المنتحِلون للمعاش الطبيعي من الفَـلْح والقيام على الأنعام، وهم مقتصرون على الضروري من الأقوات والملابس والمساكن وسائر الأحوال والعوائِد، ومقصِّرون عما فوق ذلك من حاجي أوكمالي يتخذون البيوت من الشَّعَر والوَبَر أوالشجر أومن الطين والحجـارة غير مُنَجَّدَة، وقد يـــأوون إلى الغِيـران والكهوف. وأما أقواتهم فيتناولون بها يسيراً بعلاج أوبغير علاج ألبتّة إلا ما مسّته النار. بذل علماء الغرب ومفكّروه جهداً واضحاً لبلورة مفهوم الحضارة، وبحث أصوله وغير ذلك من القضايا المتمحِّضَة له. فجاءت اجتهاداتُهم متنوعة؛ بحيث إنهم أثروا بآرائهم في الثقافات الأخرى، ووُجد دراسون كُثْرٌ يرددون طروحاتهم. وسنعرض ها هنا منظورات عدد من المثقفين الغربيين للحضارة، وليكن البدْء برأي وِلْ ديورانت في الموضوع. يقول: "الحضارة نظام اجتماعي يُعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي. وإنما تتألف الحضارة من عناصرَ أربعةٍ: الموارد الاقتصادية، وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذٍ لا تنفكّ الحوافز الطبيعية تسْتنْهضُه للمضيِّ في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها". إن ديورانت يجعل الحضارة نسَقاً مجتمعياً مؤسساً على مقوّمات رئيسة متشابكة ذات صلة بالاقتصاد والسياسة والأخلاق والعلوم والفنون، تنحو نحو غاية أساسية تمْثُل في مساعدة الإنسان على تنمية رصيده الثقافي وتقوية مُنْتَجِه المعرفي. ويرى أن الحد الفيصل بين الحضارة واللاّحضارة ذو علاقة بسيكولوجية الإنسان، إذ يعيش المجتمع طور الحضارة والتمدُّن لمّا ينْعم أفراده بالطمأنينة والاستقرار، فتنزع إراداتهم الحرة نحوالبناء والخلق والإسهام في ترقية الحياة البشرية كلها.وحدَّد ألبرت شفيتسر ،في كتابه "فلسفة الحضارة"، فقال إن "العناصر الجمالية والاتساع الرائع في معارفنا المادية وقُوَانا؛ وإنما يتوقف هذا الجوهرُ على الاستعدادات العقلية عند الأفراد والأمم القاطنة. إن الحضارة هي التقدم الروحي للأفراد والجماهير على السواءِ". وربط المؤرِّخ الألماني سبنجلر الحضارة بمفهومي الطبيعة والتاريخ؛ فعَدَّها ظاهرة ملازمة للطبيعة، وطوراً تاريخياً يمر به المجتمع الإنساني لمّا يجتاز مرحلة التأسيس والنشوء، ويعقبه في الدورة الحضارية للدول طور التدهور والسقوط. وكأننا بهذا العالم يردِّد هنا ما سبق أن ذكره ابن خلدون في القرن الثامن للهجرة.- الحضارة - الثقافة - المَدَنية: أيُّ علاقة بينها؟ تستعمل بعض الكتابات مصطلحي "الحضارة" و"الثقافة" بمعنىً واحـدٍ، وتجعل كتابات أخـرى مصطلحي "الحضارة" و"المدنية" مترادفيْن.حسبما رأينا، ظاهرة مركبة ملازمة للوجود البشري أنتجها الإنسان لخدمة الإنسان وإسْعاده،فعلاً،ولاسيما علماء الاجتماع، بالثقافة مجموع المكاسب العقلية والروحية والأدبية والفنية التي يكتسبها الفرد من محيطه البِيئي الذي يعيش فيه. وأوسعها انتشاراً، ذلك الذي قدَّمه لها إدوارد تيلور، الذي ذهب إلى أن "الثقافة هي ذلك الكُلُّ المعَقّد الذي ينطوي على المعــرفة والعقائد والفنّ والأخلاق والقانون والعُرْف وغير ذلك من القدرات والمقوّمات التي يكتسبها الإنسان باعتباره عُضْواً في المجتمع." وقد علّق بعض الباحثين على هذا التعريف بالقول: "الثقافة هي كل شيء يتعلمه أفراد المجتمع ويشاركون فيه. إنها كل التراث الاجتماعي الذي يتلقاه الفرد من مجتمعه. وهذا التراث الاجتماعي يمكن أن ينقسم إلى ثقافة مادية وثقافة غير مادية. وعاداتهم السلوكية التي يتبعونها، أما الجانب المادي فيشمل كل ما صنعته يد الإنسان من أثاث وسيارات وأبْنية ونظم عمارة. وفي الحقيقة يشمل كل مادةٍ غيّـــَرها الإنسان واستعملها." ويبدو أن صاحب التعليق قد خلط بين مفهوم الحضارة ومفهوم الثقافة؛ ذلك بأن الأولَ تركيبٌ أوبنية معـقدة يَزدوج فيها المادي وغير المادي، على حين إن الثاني يتمحَّض لغير المادي أساساً! وليست الثقافة - كمفهوم- منصرفة إلى المقومات الوُجْدانية والعقلية التي يكتسبها الإنسان بحكم اجتماعيته فقطّ، لذا، ويقول د.حسن الأمراني في هذا المَساق: "إن الثقافة ما لم تتحول إلى فعل، أو تعمل على دفع الإنسان إلى الفعل، تفقد شرائط وجودها، وتصبح نوعاً من الترَف الفكري الذي يكبــــِل الطاقات ويعوّقها عن الانطلاق.أساساً، وإنْ شِئْت فقلْ: إن الفعل الثقافي، ككل فعل تغييري، وبناء العناصر المشْرقة التي تدفع بالإنسان إلى الحركة من أجل أن يسمو إلى مكانة التكريم الإلهي. ما دامت "كل أجناس البشر متحضِّرة، وما من شعبٍ إلا وله مستواه الحضاري"، بل وتختلف على مستوى أقطار الحضارة الواحدة. وعليه، ويقول ،أيضاً، د. مؤنس عن خصوصية الثقافة وارتباطها الوثيق بمحيطها: "الثقافة هي ثمرة كل نشاط إنساني محلي نابع عن البِــيئة ومعَبِّر عنها أومُواصِل لتقاليدها في هذا الميدان أوذاك. فالشعر الإنجليزي والموسيقى [الإنجليزية] كلها مظاهر ثقافية، وكذلك الحال بالنسبة للأدب العربي والموسيقى العربية وتراثها الأدبي في جملته واحد هوتراث الشعر العربي كله. وكلما كانت الظاهرة الحضارية أكثر التصاقاً بطبيعة البلد الذي قامت فيه فهي ثقافة. وفيما يخصّ المَدَنِيّة، فهي اصطلاح السوسيولوجيين، هي "تراث المعرفة التطبيقية التي ترمي إلى السمو بالإنسان والارتفاع به عن مستوى الاسْتِسلام لمُلابَسات الطبيعة، ومدى قدرةِ هذه الطاقة على التحكم في طبيعة الأشياء، وبذلك تشمل جميع الخيرات العلمية المتوارثة في مجالات الطبيعة والكيمياء والطبّ والفلك وسائر العلوم التطبيقية. فالمدنية - كالحضارة- عامة ومشتركة بين الحضارات؛ إذ إن كل أمة سجّلت إسْهامها في تطوير المعرفة التطبيقية والعلوم، وإنْ بدرجات متفاوتة طبعاً. هذا بخلاف الثقافة ال