هي قصة الدرب الطويل الذي مشت عليه البشرية مرات ومرات، يبدأ أولى الخطوات فيه نبي مرسل يحمل آيات الله تضيء له جنبات الطريق، ويشق مع أتباعه خط السير من الظلمات إلى النور، كان الدرب ولا يزال مستقيماً، فشرط الوصول إلى الله استقامة الطريق إليه، ولاقوا جميعاً ما لاقوا في سبيل الخروج من الظلمات إلى النور. شن المشركون حرباً مفتوحة على جبهات متعددة لمواجهة الإسلام، وكان عناد المشركين يزداد في كل يوم جديد، ويفجر غضبهم في مواجهة الدعوة والداعي والمستجيبين له، وصعب على المشركين أن يصبروا طويلاً، وهم يرون الدين الجديد يدخل بيوتهم، ولم تجدهم نفعاً حملات الاستهزاء والسخرية والمعاندة في الحق، فمدت قريش يد الإيذاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمرت في حملات التشويه والتلبيس والتشويش على النبي وعلى الإسلام وعلى الداخلين فيه. رحمة للعالمين ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بدعا من الرسل، بل ضرب الأنموذج الأكمل في تحمل الاضطهاد والإيذاء المعنوي والبدني، في سبيل توصيل رسالة ربه إلى الناس، وهو رغم ما لاقاه من عنت وكفر وتكذيب وسب وشتم كان يبدو على الدوام أحرص على هداية قومه، حتى يعاتبه ربه على حزنه عليهم، يقول تعالى: فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً (الكهف: 6). منذ أول يوم صدع فيه بالدعوة، ولقي صلى الله عليه وسلم من سفهاء قريش أذى كثيراً، وسخروا منه، يقول سفهاؤهم: هذا ابن أبي كبشة يكلم من السماء، وكان أحدهم يمر على الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول له ساخراً: أما كلمت اليوم من السماء؟!. بل تعداه إلى الإيذاء البدني، وقد صبر على ما أصابه، إشفاقاً على قومه أن يصيبهم مثل ما أصاب الأمم الماضية من العذاب، وقد صدق فيه قول ربه عنه: وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين. وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد، إلا شيء يواريه إبط بلال. وقد سأل أبوسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وهو من أوائل من أسلموا ورأوا كيف أوذي المسلون وكيف أوذي نبيهم، فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة. أبو لهب وامرأته وكان أبو لهب عم النبي في مقدمة الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وقف موقف العداء من ابن أخيه منذ اليوم الأول، وقد أسلفنا ما فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم في مجلس بني هاشم، وما فعل على الصفا. وكان أبو لهب قد زوج ولديه عتبة وعتيبة ببنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم رقية وأم كلثوم قبل البعثة، وقد بلغ من أمر أبي لهب أنه كان يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأسواق والمجامع، ومواسم الحج ويكذبه، بل كان يضربه بالحجر حتى تدمى عقباه. وكانت امرأة أبي لهب أم جميل أروى بنت حرب بن أمية، فقد كانت تضع الشوك في طريقه، وتطيل عليه الافتراء والدس، وتؤجج نار الفتنة، وامرأته حمالة الحطب، في جيدها حبل من مسد، فلما سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة، ومعه أبوبكر الصديق وفي يدها فهر (أي بمقدار ملء الكف) من حجارة، فقالت: يا أبا بكر، ودينه قلينا، ثم انصرفت، أما تراها رأتك؟ فقال: ما رأتني، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للصحابة وهم يتألمون من وصف نبيهم بهذا الوصف: ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذمماً ويلعنون مذمماً وأنا محمد. وكما بدأ أبو لهب عم النبي وجاره بالإيذاء العلني له، فقد تجرأ بقية جيرانه صلى الله عليه وسلم، يقول ابن إسحاق: كان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته أبا لهب، والحكم بن أبي العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط، وعدى بن حمراء الثقفي، وابن الأصداء الهذلي -وكانوا جيرانه- لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص، فكان أحدهم يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلى، حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجراً ليستتر به منهم إذا صلى فكان إذا طرحوا عليه ذلك الأذى يخرج فيقف به على بابه، ثم يقول: يا بني عبد مناف، أي جوار هذا؟ ثم يلقيه في الطريق. فرعون الأمة وكان أبو جهل فرعون الأمة كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم من أكثر المشركين معاداة للنبي وللإسلام والمسلمين، وقد بادر النبي بالإيذاء كثيراً، ومرة مر به وهو يصلى عند المقام فقال: يا محمد، ألم أنهك عن هذا، وتوعده، وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بخناقه وهزه، وهو يقول له: أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى، بأي شيء تهددني؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادي نادياً، فأنزل الله: فليدع ناديه، سندع الزبانية. أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال أبوجهل: يعفر محمد وجهه بين أظهركم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه، ليطأ رقبته كما زعم، ويتقى بيديه، فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار، وهولاً وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً. وازداد أبو جهل ومن معه من المشركين في شقاوتهم وخبثهم، وإيذائهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وروى الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، فانبعث أشقى القوم، لا أغنى شيئاً، فطرحته عن ظهره، فرفع رأسه، ثم قال: اللهم عليك بقريش ثلاث مرات، وشيبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعد السابع فلم نحفظه، فوالذي نفسي بيده لقد رأيت الذين عد رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في القليب (قليب بدر). تعددت أشكال الإيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم، وكثر المتجرئون عليه من زعماء قريش، وكان من بين هؤلاء أمية بن خلف الذي كان إذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم همزه ولمزه، وكذلك أخوه أبي بن خلف، والأخنس بن شريق وغيرهم، وروايات حماية الله لنبيه كثيرة، كانوا يعلمون صدقه، سفه أحلامنا، وسب آلهتنا، طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا وثبة رجل واحد، وأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول: نعم،