طوابع عقلية دقيقة رأينا في الفصل السابق كيف رقيت الحياة العقلية في هذا العصر رقيئًا بعيداً كما وهي مناظرات الشبهة فيه عن نفسه ، وفي ذلك يقول بشار شفاء العمى طول السؤال وإنما دوام العمى طول السكوت على الجهل فكن سائلا عما عناك فإنما دعيت أخا عقل لتبحث بالعقل ولم يكن الشاعر العباسي يلتمس المعرفة عند العلماء ولقائهم وسعيه لسؤالهم وإلحاحه في السؤال فحسب ، صنف ، كتبه ، وكنوز الآداب من حوله ، يغذى بها نفسه وعقله غذاء ممتعاً ، يقول(۱) : مؤنسون وألأف غنيت بهم فليس لي في أنيس غيرهم أرب إليه فهو قريب من يدى كتب (۲) فأما أدب منهم مددت بدی وابن يسير إنما يعبر عن نزوع الشعراء عامة في عصره للتزود بجميع ألوان المعرفة وما كانوا يجدون في ذلك من لذة عقلية لا تعد لها لذة . وقد مضوا يتمثلون كثيراً هذه الألوان ويحيلونها غذاء شعريئًا بديعاً، سواء منها الهندي والفارسي واليوناني ولنقف قليلا عند الثقافة الهندية ، من ذلك من المدار وأصحاب الحساب يذكرون أن الله تعالى حين خلق النجوم جعلها مجتمعة واقفة" في برج وأنها لا تزال جارية حتى تجتمع في ذلك البرج الذي ابتدأها وإذا عادت إليه قامت القيامة وبطل العالم ، والهند تقول إنها في زمان نوح اجتمعت في الحوت إلا يسيراً منها ، وبقى منهم بقدر وينشد ابن قتيبة قول أبي نواس في بعض المغنين هاجياً قل لزهير إذا حدا رشدا أقل أو أكثر فأنت مهذار سخنت من شدة البرودة - لا يعجب السامعون من صفتی كذلك الثلج بارد حار ويعلق بقوله : « هذا الشعر يدل على نظر أبي نواس في علم الطبائع ، الهند تزعم أن الشيء إذا أفرط في البرد عاد حارا مؤذياً ، ل ينبغي للعاقل أن يغتر باحتمال السلطان وإمساكه ، فإنه إما شرس الطبع بمنزلة الحية إن وطئت فلم تلسع لم يغتر بها فيعاد لتوطئيها ، وأكبر الظن أن على نحو ما مر بنا في غير هذا الموضع ، وخلفه فيما صاغه العباسيون من حكم وأمثال ، ونرى ابن عبد ربه في العقد الفريد يتمثل بحكمة منه هي : « إن الحازم يكره القتال ما وجد بدا منه ، النفس والنفقة في غيره من المال ، ولاحظ أن أبا تمام نقل هذا المعنى إلى شعره فقال (۲) : كم بين قوم. وكان تأثير الثقافة الفارسية في الشعر والشعراء أشد وأقوى من تأثير الثقافة الهندية ، إذ كان كثير من الشعراء يتقنون اللغة الفيلوية ، فحسب مثل أبي نواس ، ورآه شخص يوماً ينسخ بعض صحفها ، فسأله متعجبا : لم تكتب كتب العجم ؟ فأجابه منكراً سؤاله : وهل المعاني والبلاغة إلا في كتب العجم ؟ اللغة لنا والمعانى لهم(3) . وقد مضى الشعراء منذ ظهور کتابی الأدب الكبير والأدب الصغير لابن المقفع يتأثرون بما نقله فيهما من تجارب الفرسوحكمهم ووصاياهم في الصداقة والمشورة وآداب السلوك والسياسة ، ومن يرجع إلى يقول فيها(۱) : إذا بلغ الرأى المشورة فاستين برأي نصيح, ولا تجعل الشورى عليك غضاضة مكان الخوافي نافع للقوادم (۲) من مثل قوله : « إذا أقبلت وإذا أدبرت عنك فأنفق فإنها لا تبقى » وقد ه) فلا الجود يفنى المال والجد مقبل ولا البخل يبقى المال والجد مدبر ريب في أن الثقافة اليونانية كان تأثيرها في الشعر والشعراء أعمق وأبعد غوراً، بما فتحت أمامهم من أبواب الفكر الفلسفي وأبواب المنطق ومقاييسه وأدلته ، وما بعثت فيهم من محاولة استكشاف دفائن المعاني واستخراج دقائقها . بل كان ألف في منهم من المنطق(7) ، حتى يشحذ ذهنه وأذهان الشعراء من حوله . وكان مما ترجم لهم من وقد نقل منها من ذلك أن أحدهم وقف عند رأسه ، وقال : سكنت حركة الملك في لذاته وقد حركنا اليوم في سكونه جزعاً لفقده، فأخذ هذا المعنى أبو العتاهية قائلا ً : 6)يا على بن ثابت بان منی صاحب جل فقده يوم بنتا وهو اليوم فتمثله أبو العتاهية في مرثية أخرى لصديقه على هذا النمط : كفى حزنا بدفنك ثم أنى نفضت تراب قبرك عن وكانت في حياتك لى عظات وأنت اليوم أوعظ منك حيا العربية وتداوله الوعاظ في وعظهم كما تداوله شعراء الزهد ، واستوحوه في كثير من من ذلك ما يروى عن المسيح من أن قومه عيسّروه بالفقر ، فقال : من واستوحى محمود الوراق هذا المعنى وزاد عليه إيضاحا وتبيينا بقوله(۱) : من شرف الفقر ومن فضله على الغنى إن صح منك النظر أنك تعصی کی تنال الغنى وليس تعصی اللہ کی تفتقر الزهد من عناصر غريبة بوذية أو مانوية . في الشعر والشعراء، بيئة المعتزلة إذ كانت تقوم من الفكر العباسي في هذا العصر متمام السكان والمجداف من السفينة ، المعارف والمعتقدات ، وأن يتمثلها إلى أبعد حد ممكن . وبدءوا بأنفسهم فتثقفوا أروع ما يكون التثقف بكل ما ترجم عن الهنود والفرس واليونان، الفلسفة اليونانية عكوفاً جعلهم يتمنون على كل شعبها وكل مناحيها في الفكر الدقيق ، ولم يلبثوا أن استكشفوا لأنفسهم عالمهم العقلي الذي يموج بطرائف الذهن في جميع المعانى الحسية والعقلية . وكانوا ما يزالون يحاورون أصحاب الملل والنحل في المساجد الجامعة ، مستنبطين كأروع ما يكون التحليل والاستنباط ، واشتقوا لهم آراء جديدة ، وهو صوره منهم بشر بن المعتمر تصويراً طريفاً ، الشاهد للأمر يقضى على غائب لذو قوى قد خصه ربه بخالص التقديس والطهر وقد سخر بشر عقله في الرد على أصحاب المقالات والتحمل وفي نظم قصائد تدخل في التاريخ الطبيعي يتحدث فيها عن مشاهد الطبيعة ودلالتها على قدرة الصانع الأكبر . وكان وراءه من المعتزلة شعراء لم يبعدوا بشعرهم عن دوائر الشعر المألوفة من دقة المعاني ومن غرائب الأخيلة والصور ، من وخاصة من التحموا منهم بالمعتزلة ويكفى أن نصور ذلك عند ثلاثة من الشعراء النابهين هم : بشار وأبو نواس وأبو تمام . فأما بشار فكان يعد من أصحاب الكلام ، وكان ويستمع إلى ما يجرى فيها من حوار بين أصحاب الملل والنحل سماوية وغير سماوية ، وتشوش عقله ، مما سنعرض له في ترجمته . التي يحاور فيها واصل خصومه مشكلة الحبر والاختيار ، لما يؤدى إليه ذلك من فقدان الإنسان لحريته في أعماله وأنه كتبها عليه القضاء المحتوم ، والله لا يظلم الناس مثقال وهم لذلك مسئولون عنه ومحاسبون . وقد مضى بشار في أشعاره يعارض واصلا في هذه المشكلة الإنسانية الكبرى ، مصرا على أن الإنسان مسير في رحلته الدنيوية بقضاء يخط له غده وفي ذلك يقول(1) : فأصرف عن قصدى وعلمی مقصر وأمسى وما أعقبت إلا التعجبا وربما كان لفقده بصره أثر في اعتناق هذا المذهب . وأهم من هذه المشكلة الشعراء العباسيين وأشعارهم أننا نجد عنده استدلالات عقلية كثيرة على نحو ما مرّ بنا في أبيات الصداقة والصديق ، كما نجد عنده توليدات وتشعيبات للمعاني التي طرقها القدماء لا تكاد تحصى ، مع محاولة الإطراف والإتيان بالمعنى المبتكر والصورة البديعة . ولنقف قليلا عند معنى طول الليل الذي وقف عنده امرؤ القيس ، معلقته ، فيا لك كأن نجومه بكل مغار الفتل شدت بيذبل(۲) فهو يتصور نجوم الليل لطوله الشديد كأنما سمرت ، مضى الجاهليون والإسلاميون بعده يتناولون هذا المعنى ، جديدة ، العقل العباسي وقدرته على التعليل والتحليل وأنه يستطيع أن يؤدى المعنى القديم في معارض جديدة شديدة الروعة ، من ذلك قوله(٣) : خليلي ما بال الدجى ليس يبرح وما بال ضوء الصبح لا يتوضح أم الدهر ليل كله ليس يبرح له ودو خيال زاخر بالحركة ، ويعود إلى التفكير في نفس المعنى ، وما يزال يلح في التفكير والتخيل حتى إذ يقول عن نفسه وقد بات ليلة مسهدة إثر فراقه لإحدى صواحبه(۱) : جفت عيني عن التغميض حتى كأن جفونها عنها قصار ولكن أيكفيه أن يعلل لمعنى طول الليل القديم وما يطوى فيه من السهر بهذه العلل البارعة ؟ أو لا ينبغي أن يسلك مسالك المتكلمين والمعتزلة لا في الإتيان بالعلل الخفية المستورة وإنما في الإتيان بما ينقض المعنى نقضا من أساسه على شاكلتهم في محاوراتهم ومداوراتهم ؟ وإذن فلينقض ما يقال من طول الليل ، والسهاد الطويل الذي يخيل إليه كأن الليل يطول ، والليل مظلوم ، لم يطل ليلى ولكن لم أنم ونفى عنى ونفى عنى الكرى طيف ألم كما على شاكلة وعي الفعال كعى المقال وفي الصمت عى كعى الكليم فقد جعل العـى أقساما ، فهو لا يكون في الكلام فحسب ، بل إنه يكون أيضا في الفعال السقيمة . ولعل في ذلك ما يوضح من بعض الوجوه كيف منح المعتزلة ومباحثهم بشاراً هذه الطوابع العقلية التي جعلته يمتاز في شعره بشخصية قوية . ولم يكن ما منحه أبو نواس من تلك البيئة أقل حظئًا وقدراً ، بل لعله ظفر منها بأكثر مما ظفر بشار ، من ألفاظهم وأفكارهم ، من ذلك فكرة التولد ، وهي الفعل الذي ينشأ عن فعل آخر دون قصد ، فقد صدر عنها في قوله متغزلا ً بجنان (۱) مورد فـانة المتجرد تأمل محاسناً منها ليس تنفذ فبعضها تناهی وكان النظام ينكره ، وتجادل فيه طويلا مع نظرائه من المعتزلة ، وقد ألم بها أبو نواس في قوله متغزلا(۲): حلا یا عاقد القلب عنى هلا تذكرت قليلا ترکت القليل یکاد لا من لا ويقال إن النظام سمع منه هذه الأبيات ، فقال له : « أنت أشعر الناس في في هذا المعنى ، والجزء الذي لا يتجزأ ـ منذ دهرنا الأطول ـ نخوض فيه ما خرج ومن ذلك قوله في شخص كان يبغضه(٤) : كمن الشنان فيه لنا ككمون النار في حجره إذ كان يرى أن الله جل جلاله خلق الموجودات دفعة واحدة ، ثم أكمن ومما كان يحاوره فيه أبو نواس فكرة صدق الوعد والوعيد على الله وهي إحدى الأفكار الأساسية في عقيدة المعتزلة كما مر بنا في الفصل السابق ، وقد جعلتهم يرفضون فكرة العفو التي قال بها المرجئة والتي تذهب إلى أن الله من حقه أن يترك وعيده لمن أجرم وارتكب الكبائر ، فيسدل وكان أبو نواس يتصدر عن فكرة المرجئة في حواره للنظام بمثل قوله في إحدى خمرياته(۱) : فلسفة حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء وقد فتقت مجالس المعتزلة والمتكلمين عقل أبي نواس ، فإذا هو يتحول إلى خفت مأثور الحديث غدا وغد دان وقوله (۳) : أنت دونها الأيام حتى كأنها تساقط. وتلقانا في كثير من جوانب شعره طوابع المعتزلة في لغتهم وفى حجاجهم وفى توهمتها في كأسها فكأنما توهمت شيئاً ليس يدرك بالعقل وصفراء أبقى الدهر مكنون روحها وقد مات من مخبورها جوهر الكل فما يرتقى التكييف منها إلى مدى به إلا ومن قبله قبل وقد خفيت من لطفها فكأنها بقايا بقين كاد يذهبه الشك : (4)وواضح ما في هذه الأبيات من ألفاظ المتكلمين ومصطلحاتهم وتجريداتهم فقد جعل الخمر لا تدرك بالعقل كأنها معنى خفى لا ينكشف ، ودعاها : « جوهر الكل » وقال إنه لا يحيط بها كتيف أو تكييف تحد به وتعرف ، بل يظهر أنه مد تعمقه إلى الفلسفة وما يتصل بها من المنطق ، وقد ألمح إلى ذلك الآمدي في فاتحة كتابه : « الموازنة بين الطائيين ، فقال إن شعره إنما يعجب وتتراءى ألفاظها عنده من حين إلى حين كقوله في هجاء بعض خصومه(۱) : هب من له شيء يريد حجابه ما بال لا شيء عليه حجاب وكلمة لا شيء في اصطلاح المتفلسفة تعنى العدم . لن ينال العلا خصوصاً من الفن يان من لم يكن نداه عموما(۳)