كلمتا العادة والعيد: تجتمعان في أصل الاشتقاق اللفظي، وتلتقيان على الاشتراك في المعنى الوضعي، ولكن الإسلام حينما شرع عيديه العظيمين بيَّن بناء مشروعيتهما على معانٍ دينية جليلة، وأبقى اللفظ للدلالة على الزمن المؤقت لتلك المعاني، كما هو شأنه في جميع حقائقه وأحكامه القدرية والتكليفية والكونية المشهودة والمغيبة، يدل عليها بمفردات وتراكيب عربية مما يعرف الناس، ويبقي لها جزءًا من المعنى يتصل بالمعاني الدينية أيَّ اتصال، أو يكون جزءًا منها ثم يصرف بقية الأجزاء من المعاني إلى الغرض الديني الكامل حتى لا يكون اللفظ منقولًا من معنى قديم أفرغ منه إفراغًا إلى معنى جديد شُحن به شحنًا. وانتقلت مع الإسلام إلى الأمم الأخرى فإذا اللغة العربية قائمة بهذا الدين، ووضعت وضعًا أوليًّا خاصًّا لمعانيه الدينية الجديدة، ويتلطف علماء البيان حينما يسمون هذا النوع من التصرف (الحقائق الشرعية) يقابلون به الحقائق الوضعية، وهنا يتجلى لطف الله وسماحة دينه، بل جعل لغة الدنيا هي لغة الدين، لم يبق من معنى كلمة العيد في الإسلام إلا أنه يعود في زمن مقدر، أما ما عدا ذلك فصرفه إلى معان دينية مما ينفع الناس، ففي العيدين المشروعين أحكام تقمع الهوى، من بين يديها ذكريات تثمر التأسي في الحق والخير، وأمثلة عملية في الإحسان وتقوية ملكته، وموازين تقيم المعدلة بين الأصناف المتفاوتة من البشر، وهما مع ذلك كله ميدان استباق إلى الخيرات، ولها خطرها الجليل في الاجتماعيات، ولها ريحها الهابَّة بالخير والبر والإحسان والرحمة، وكلمة الشكر على تمامه، وناهيك بالشعيرتين منزلة بين شعائر الإسلام، وإن كليهما سوق امتياز يمتاز منه الموفقون طرائف الخير، وما كل بضاعة من أعمال العاملين تروج عنه الله، هذا الربط الإلهي بين العيدين وبين الشعيرتين كافٍ في الحكم عليهما، وأنهما عيدان دينيان بكل ما شرع فيهما من سنن حتى ما ندب إليه الدين، وهو في ظاهر أمره دنيوي، كالتجمل والتحلي والتعطر والتوسعة على العيال، فمن تحرر المحاسن في الإسلام أن المباحات إذا حسنت فيها النية، وأريد بها تحقيق حكمة الله، إلى الغاية التي نطق بها الحديث الصحيح: (( حتى اللقمة تضعها في فِي امرأتك)). كِلا طرفي العيد في معناه الإسلامي جلال وجمال، وبشاشة تخالط القلوب، فلو وصف العيد نفسه وصف الخائل المزهو، وخلع على نفسه كل ما انتهى إليه خيال الشعراء، وليس السر في يومه الذي يبتدئ بطلوع شمس، العيد في نظرة الإسلام ملتقى عواطف تتقارب، بين طوائف كانت في أمسه تتحارب، ففيه يتنزَّل الغني المترف، فيلتقيان في عالم من عوالم المثال كما يقول الصوفية، يتجلى العيد بجلاله على الغني فينسى تألهه بالمال، ويذكر أن كل من حوله إخوانه أولا وأعوانه ثانياً فيمحو إساءة عام بإحسان يوم، ويتجلَّى على الفقير بجماله فينسى متاعب العام، وتمحو بشاشة العيد من نفسه آثار الحقد والتبرم والضيق، ولا تتفتح أمام عينيه إلا الطريق الواصلة بالله، وتنهزم في نفسه دواعي اليأس على حين تنتصر بواعث الرجاء. هذه بعض معاني العيد كما نفهمها من الإسلام، فكان هذا الدين من العام زاد الرحلة بآثاره، آفة محاسن الإسلام – وما محاسن شيء كله حسن – هذه الظواهر المتقلبة التي سمون مجموعها عادة، فهي التي تتسلط على تلك المحاسن بالطمس والتشويه حتى تمسخ الجمال، وقد تبدأ بالإلف يعقبه أنس، ثم ينتهي بأسوأ ما ينتهي إليه تعاقب الأطوار، وهو النزول عن حكم الدين في ثبوته، فتصبح هي الحاكمة المقبحة المحسنة المقدرة، ثم تتسامى إلى المسلمات اليقينية، فتمسها بالتشكيك ثم إلى الحقائق الدينية فتبتليها بالتزهيد فيها أو بالتبغيض، وهذا هو شر ما وصل إليه المسلمون بالنسبة إلى شعائر دينهم: تهجر بين أقوام فيصبح هجرها عادة تخشى مخالفتها والخروج عنه، ويقيمها أقوام بحكم العادة لا بحكم الدين، وآية ذلك أن فاعلها يأتي بها متبرمًا متثاقلًا مقدرًا لعتاب الناس لا لعذاب الله، وهذا التناقض في آثار العادة واقع بين المسلمين مشهود مشهور. فلا عجب إذا كانت عاداتهم المتحكمة فيهم من نوع حالتهم العامة. ويقظة الشعور بالمهانة والنقص في النفس وفي الجنس والنفور من القريب والخضوع لحكم الغريب، حينما تمد هذه العادات السخيفة مدَّها فتنصبُّ على الدين، فليسلم العقلاء منا بهذا الدافع وليعالجوا الحالة على ضوئه، وحذار من المكابرة فيه، بلونا أمر المسلمين في القرون الأخيرة شهادة للحاضر، وبدأنا بأنفسنا فوجدنا أنا ما أوتينا إلا من ضعف سلطان الدين على نفوسنا، ووزننا للأشياء كلها بالميزان العادي، وتحكيمنا للعادات السخيفة التي نبتت فينا في عصور الانحطاط. كما يتهالك الخليون الفارغون على الألقاب الحكومية الزائفة، وأصبحت وظيفة عادية يقوم بها القائمون تأثرًا بالعادة، وكلا الأمرين واقع في الأقطار الإسلامية، وهذا المجتمع المتشدد في الصوم متساهل إلى أقصى الحدود مع تاركي الصلاة، فلو كان للشعائر سلطانها الديني على النفوس لما أفطر في رمضان أحد، ولو كان المتشددون مدفوعين بدافع ديني لكان تشددهم مع تاركي الصلاة أقوى وأشد، ولكن ضرورة التمثيل خرجت بنا عن الجدد إلى الحيد بعض الشيء، ولنقل: إن المسلمين جردوا هذه الأعياد من حليتها الدينية، وعطلوها من تلك المعاني الروحية الفوارة، وأصبحوا يلقون أعيادهم بهمم فاترة، وتتأثر بالعسر واليسر والنفاق والكساد، واجتماعًا على المحبة في زمرهم، واتجاهًا إلى المبهجات في مجتمعاتهم، لولا ذلك لكانت المآتم أعمر بالحركة وأدل على الحياة من أعيادنا. ولا تعاند حكمًا إجماعيًّا، أصبحت حاكمة يرجع الناس إليها عن عقولهم وأفكارهم ومصالحهم وعن دينهم أيضًا. لو أوتينا الرشد لكان لنا من أعيادنا الدينية الجليلة مواقف لتصحيح الانتساب، ولعلمنا أن نفس المؤمن تتسع للدين والدينا، ويوم كان الدين كاملًا في النفوس كانت الدنيا مملوكة لتلك النفوس، فلا يذهب الخراصون مذاهبهم في العلل والأسباب؛ ومن آداب النبوة فينا (الحمية رأس الدواء) فأنجع الأدوية لأدوائنا الحمية. الحمية من المطامع والشهوات فهي التي أفسدت علينا ديننا ودنيانا، وإذا فعلت هذه الحمية فعلها خفت الأخلاط فخفت الأغلاط، الحمية رأس الدواء والحمية لا تفتقر إلى إرشاد طبيب. وأن الدواء في التحلل منه، وليربع كل ناعق من هؤلاء على خلعه،