تحت عنوان ( حصاد الغرور ) ومنذ أكثر من أربعين عاما ًكتب الشيخ محمد الغزالي رحمه الله كتاباً يستعرض من خلاله الواقع الكئيب للعرب والمسلمين في هذا العصر ،ويركز في مقدمته على قيام دولة اليهود على أرض فلسطين المسلمة ،وتمكنها من هزيمة العرب من سنة 1948 إلى سنة 1967م في حروب متتابعة ، ويبين أن الأمة الإسلامية قد تعرضت في الماضي لمناوشات الأعداء من الشرق والغرب ،واحتلت عواصمها ،ومع ذلك استطاعت النهوض من عثرتها واستأنفت المسير ، ثم يتساءل لِمَ لا تكون ظروف اليوم كظروف الأمس أي :فتصحو الأمة من غفلتها وتقوم من كبوتها ؟ وكان جوابه الأولي بإمكانية ذلك ، لكنه استدرك فبيَّن أنه كان غالطاً في تصوره ذاك ، وفي شرحه لسبب عدم ثقته في قدرة العرب والمسلمين في هذا العصر على مغالبة الهزيمة والانكسار ، بين أن اليهود منذ صدور وعد بلفور في سنة 1917م ، لم يضيعوا ساعة عبثاً ، وإنما شرعوا لفورهم يحولون اليهودية إلى عقيدة بعث وبذل وفداء ،وأخذت أوروبا وأمريكا تمدان جرثومة العدوان الجديد بما تشاء كى تضمنا لها التفوق والنصر. أما العرب فإنهم كانوا يمضون منحدرين إلى القاع ، فالعقيدة في بلادهم وهى الإسلام تذبل وتنكمش ، وروح الجهاد تناوشها اللذات المطلوبة والشهوات الغالبة .ثم يقول الشيخ رحمه الله : ( إن مصدر خشيتى على الإسلام هو موقف العرب من دينهم! إن العرب يريدون أن يدخلوا بغير دين في معركة دينية ،ومع أن مطارق الهزيمة التي وقعت على أم رأسهم كانت كفيلة بإزالة هذا الوهم إلا أن عملاء الشيطان يستميتون في مكافحة هذه اليقظة والحيلولة دون اعتناق العرب للإسلام ، كُلاً لا يتجزأ ) . ثم يذكر الشيخ رحمه الله أنه لتحقيق النصر لا بد من العودة الصادقة إلى الإسلام بما يعنيه ذلك من تحكيم الشريعة الغراء في كل أمور حياتنا وكذا الحرص على هيمنة التربية الدينية على مراحل التعليم كلها.لقد كتب الغزالي هذه الكلمات في أعقاب هزيمة العرب في عام 1967م ، وللإنصاف نذكر أنه قد بدأت في تلك الفترة بوادر العودة إلى الدين و،كان من مظاهر ذلك الاهتمام ببث الروح الإيمانية بين الجنود من خلال جولات وندوات شارك فيها الشيخ الغزالي نفسه ، حتى جاءت حرب رمضان فتحقق للعرب نصر جزئي ،لعله جاء بقدر ما حققوا من إيمان ورجوع إلى صحيح الدين .لكنهم عادوا بعد ذلك لسيرتهم الأولى ،بحيث يمكننا أن نقرر أن ما قاله الغزالي منذ أكثر من أربعين عاماً لا يزال منطبقاً على واقعنا اليوم ،بل إن حالنا اليوم أسوأ بكثير مما كان عليه الحال في ذلك الزمان ،فعلى الأقل كان العرب وقتها يعتبرون إسرائيل ومن ورائها أمريكا عدواً لهم ، وكان كل من يفكر في مصالحة اليهود أو الرضا ببقاء دولتهم يعد خائناً عميلاً ،وأما اليوم فكثير من ساستنا لا يرون إسرائيل عدواً لهم ، بل إن ما يسمى بتطبيع العلاقات جارٍ على قدم وساق .لقد تابعنا في الأسبوع الماضي احتفال اليهود والأمريكان بافتتاح السفارة الأمريكية في القدس فوجدنا التركيز على البعد الديني في الصراع واضحاً جلياً ، فها هو ترامب يرسل لمباركة الاحتفال اثنين من أبرز القساوسة المتعصبين ضد الإسلام والمسلمين ، أولهما هو مستشاره الديني القس المعمداني روبرت جيفرس الذي طالما وصف الإسلام بأنه دين شرير يحرض بزعمه على اغتصاب الأطفال ، وثانيهما هو القس جون هاجي مؤسس حركة ( مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل) .أما نيتنياهو رئيس الوزراء الصهيوني فقد ركز في كلمته في الاحتفال على مزاعم الصهاينة وأساطيرهم الدينية ، فجاء أكثر كلمته في بيان أن القدس كانت عاصمة لدولتهم منذ أكثر من ثلاثة ألاف سنة من أيام الملك داود ، ثم قال بعد استعراض شيء من تاريخهم المزعوم في القدس : ( وبعد ذلك بـ 2000 عام قال الجنود الإسرائيليون – أي عند احتلالهم للقدس عام 1967- ثلاث كلمات خالدة: جبل الهيكل بيدنا. فأنعشت تلك الكلمات روح أمة بأكملها ) . بل إنه نسب في كلمته إلى زكريا عليه السلام أنه قال : ( قال الرب قد رجعت الى صهيون وأسكن في وسط أورشليم فتدعى أورشليم مدينة الحق ).هذا الاعتماد على العقيدة عند اليهود والأمريكان لا يقابله عندنا إلا الإيغال في البعد عن الإسلام وعقيدته وشريعته ؛ فإن أولي الأمر في بلاد العرب والمسلمين يخجلون من أن يأتوا على ذكر الإسلام في حديثهم عن القضية الفلسطينية .إن رد فعل ساستنا على نقل السفارة الأمريكية -وما تزامن معه من مجزرة بشعة لأبنائنا في غزة استشهد فيها أكثر من ستين فلسطينياً -لم يتعد حدود الاستنكار الخفيف الذي جاء لمجرد ذر الرماد في العيون كما يقولون ، حتى إن موقفهم هذا لم يبلغ في قوته مبلغ ما قام به بعض الشبان اليهود في فلسطين الذين خرجوا متظاهرين مع الشبان الفلسطينيين ضد حكومة نتنياهو ، ولا ما قام به بعض حاخامات اليهود الذين تظاهروا في نيويورك منددين بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس .إن قناعتنا التي لن تتغير بإذن الله تعالى تتلخص في أمرين اثنين : أولهما يتعلق بطبيعة الصراع بيينا وبين اليهود وأنه صراع عقدي ، تسبق فيه العقيدة كل اعتبار ، وأنه ما لم نعد لديننا وشريعة ربنا فلا انتصار لنا ولا استعادة للقدس ولا غيرها من الأرض المحتلة ،وأما الأمر الثاني فنستعيره من الخطاب الناصري وإن اختلفنا مع صاحبه اختلافا كثيراً ، ونعني به الشعار الذي كان يردده الرئيس عبد الناصر بعد هزيمة 1967: ( إن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة ) . فكل من يزعم أنه يمكن للعرب باتباع سياسة المفاوضات المهينة أن يصلوا إلى شيء فهو مخدوع واهم .إننا لسنا من السذاجة بحيث نطالب الحكومات العربية اليوم بمواجهةٍ عسكريةٍ مع إسرائيل ، فإن تلك الحكومات لا هي قادرة على ذلك ولا هي راغبة فيه ، وإنما نريد من وراء التأكيد على ما ذكرناه أن نقول : إن ما لا نستطيعه اليوم قد نستطيعه غداً ، وإن علينا الإبقاء على التصور العقدي الصحيح لصراعنا مع اليهود ،حتى لو ظل مجرد تصور نظري يصعب تنزيله على أرض الواقع ، وحتى لو وقع ما هو أسوأ فأتموا صفقة القرن التي يتحدثون عنها ،فإن علينا أن نحافظ على التصور الصحيح ونسلمه لمن يأتي بعدنا ، فلعل الله أن يجري على أيديهم من النصر ما لم يشأ أن يشرفنا به ،