هرمنيوطيقا: صخور إدوار الخراط السماوية الرواية الجديدة واستراتيجيات التأويل تندرج أعمال إدوار الخراط الروائية في ما يمكن أن نُسميه «الرواية الجديدة»، أو ما يُسميه الخراط نفسه «الحساسية الجديدة»؛ وهو تيارٌ من الكتابة الأدبية يتميَّز بسماتٍ معينة على مستوى ماهية النص الأدبي نفسه ولغته ووظيفته. «وتتميز الرواية الجديدة» عن ما يمكن تسميته «الرواية التقليدية»، وكذلك عن «الرواية الحديثة» تميُّزًا كاملًا تقريبًا، سواء من ناحية البناء النصِّي أو من ناحية اللغة الأدبية وتشكيلاتها والمبادئ الجمالية والفلسفية، أو من ناحية الوظيفة الأدبية والأهداف. وفي حقيقة الأمر، لا تتناسب التقسيمات الزمنية مع منطق تطور أي نوعٍ أدبيٍّ، غير أنه من المفيد الإشارة إلى أن هذه التجارب الروائية الجديدة ظهرت وانتشرت في العقود الأخيرة من القرن العشرين، حتى فجر القرن الحادي والعشرين. ولكي تتضح تلك السمات المائزة للرواية الجديدة، من المهم إلقاء ضوء على السمات العامة للرواية التقليدية والرواية الحديثة. (١) الرواية التقليدية وإعادة إنتاج العالم ظهرت الرواية التقليدية في مرحلة نشأة النوع الروائي وبواكيره الأولى، نتيجة للاتصال العربي الحديث بالثقافة الأوروبية في بدايات عصر النهضة العربية، حين بدأ الوعي العربي يتجه إلى إدراك ضرورة البحث عن أشكالٍ أدبية نثرية جديدة مختلفة عن الأشكال العربية التراثية. وفي هذا السياق التاريخي، ظهرت مجموعة من الأعمال الأدبية النثرية التي نُطلِق عليها — الآن — وصف الرواية التقليدية. ويمكن إجمال إسهامات الرواية التقليدية، وما قامت به من دورٍ على المستوى الثقافي الأدبي، في أنها — أولًا — خلَّصت اللغة الأدبية من قيود السجع والبلاغة الشكلية المقصودة لذاتها، والاتجاه باللغة إلى محاولةٍ متواضعةٍ في الوصف والسرد والتحليل والتصوير، أي تحويل اللغة التراثية إلى لغة نثرية عادية قادرة، نسبيًّا، على وصف أي موقفٍ أدبيٍّ وسرده؛ وأنها — ثانيًا — خلقت جمهورًا جديدًا من القرَّاء بدأ يُدرك وجود نوعٍ أدبيٍّ غير تراثيٍّ قادر على التعبير عن احتياجاته المستجدة. ويمكن إجمال السمات المائزة للرواية التقليدية على النحو الآتي: هيمنة الأفكار على العمل الأدبي؛ فالعمل الأدبي هنا ليس مقصودًا لذاته، وإنما هو وسيلةٌ لنقل فكرةٍ محددةٍ يرمي إليها الكاتب، ويهدف من ورائها إلى توصيل عِبْرة أو موعظة أخلاقية غالبًا، بحيث يمكن القول إن هذه الفكرة كانت جاهزةً في ذهن الكاتب ومستقرة، ويتمثَّل دور الكاتب — عندئذٍ — في تجسيدها عبر لغةٍ أدبيةٍ روائية. ولذا، تقوم الرواية التقليدية — السائدة في مرحلة النشأة والبواكير الأولى — على فلسفة إعادة إنتاج الوعي الفكري والأخلاقي والقيمي السائد، الأمر الذي يترتب عليه اهتمام الكاتب بالوقائع والأحداث أكثر من اهتمامه برسم الشخصية الأدبية، فالشخصية الأدبية — هنا — ليست سوى وظيفة أو وسيلة إلى التعبير عن الفكرة. كما أن الحدث الروائي يتراكم بفعل المصادفة أو القضاء والقدر أو تدخلات الراوي المباشرة، وهي وسائل في الربط بين الأحداث الروائية غير تفاعلية؛ نظرًا إلى غلبة الاستطراد والانتقال المفاجئ عبر الأزمنة والأمكنة التي تبدو هي الأخرى عاجزة عن التفاعل مع العناصر الروائية الأخرى. ويضطلع بمهمة السرد في الرواية التقليدية راوٍ عليمٌ بكل شيءٍ، يتدخل في معظم الأحيان بالتفسير أو التعليق أو مخاطبة القارئ مباشرةً. وهكذا، تصبح الشخصيات مجرد وسيلة للتعبير عن الفكرة المهيمنة على الكاتب، فتكاد الشخصية الأدبية تتلاشى أمام منطق الوعظ والإرشاد والتوجيه الأخلاقي والقيمي، إذ تتحدث بلغة الكاتب وتنقل فِكْره ورأيه. وعلى مستوى اللغة، تتصف لغة العمل الأدبي — في هذه الحالة — بالتقريرية أو البلاغة الشكلية وتَعلوها نبرةٌ خطابية حماسية. وكثيرًا ما يلجأ الكاتب إلى إقحام أبيات من الشعر العربي القديم أو الحديث النبوي أو الأقوال المأثورة في النسيج اللغوي للعمل الأدبي، حتى يدلَّ على ثقافته الواسعة وقدرته على إثبات صحة منطقه الفكري الأخلاقي بوسائل عديدة، بغضِّ النظر عن الحدث الروائي أو الشخصية الروائية. ولهذه الأسباب جميعًا، تأتي فصول الرواية أو مشاهدها غير مترابطةٍ، كما يأتي البناء غير متماسكٍ، ويعاني صدوعًا وثغرات عديدة. ومن ثَمَّ، تغلب المهمة أو الوظيفة الأدبية على سائر عناصر العمل الأدبي، فيكثر الوعظ والتعليم والإرشاد. ومن ثَمَّ أيضًا، يمكن القول إن الرواية التقليدية نتاج رؤية تقليدية للفن والإنسان والعالم، إذ تُعيد على مستوى البناء العام والأدوات إنتاجَ الوعي السائد. كذلك تغلب على عمليات إنتاج المعنى والدلالة فيها الأحاديةُ والاستقرار والثبات التي تعبِّر جميعها عن قيمٍ مطلقة راسخة تحظى بقبول الجميع وذوق الحس المشترك؛ نظرًا إلى أن عمليات إنتاج المعنى تقوم — في حقيقة أمرها — على إعادة إنتاج القيم الثابتة وترسيخها.