شَـوارِعُـها مُـتآلِــفةٌ لا تَـقْـطَعُ وَصْلاً مَعَ بَـعضِها، وَلَيست واسِعةً كشَوارِعِ المدينة، وسَقْــفُها مِنْ أَقـواسٍ تشبه أقواس مسجدِها النَّصر، كُـنْـتُ أَجلِـسُ تَحْـتَها فَـتَـضُمني، وَتُعيدُ لي انطلاقَـةَ العَـزيمَةِ والأَملِ.كُـنتُ أَتعثَّــرُ من حِجارةِ أَزِقـتِها البارِزَةِ، فَـلمْ أَكنْ أَستَـطيعُ السَّيرَ إلا بِـنَـظراتٍ مُتَـناثِـرةً تُجنِّـبِ الاحتكاكَ بالجِـدارِ الذي أذابَ طَرفَ حَقيبَـتي الأَيمن، وبسطَةُ العَمّ (أبو طَلال) في آخِـرِ الـزِّقاق وأسمعُها تصدحُ بصَوتِ “بابـور” الكازِ الذي يَـصرُخُ بالأولادِ مُعلِـناً قُـدومَهُ، ناقِـلاً بِضاعَتَـهُ بعَــرَبَـةٍ مِـنْ ثَـلاثــةِ إِطاراتٍ، أَحَـدُها تالِفٌ – فقد أصابَته رَصاصَةٌ طائِشةٌ في لَيلَـةٍ ما- أَشتَـرِي مِنهُ الذُّرَةَ المَسلوقَةَ، أو الحمصَ المسلوقَ بالكَمونِ “البليلة”.صُفوفٌ من البيوتِ تَـنامُ في وقـتٍ واحدٍ في مَجاهِلَ بَعيدَةٍ عن الحياةِ، وعربةُ العمِّ (أبو طَلال) بعدَ آذانِ العِشاءِ وَأَحياناً بعدَ المغربِ، وَلا أَسمعُ إِلا أَصواتَ القِـطَطِ المُـتصارِعَةِ في حاويةِ طَــرَفِ الشارع.يبدأُ غَضَبي بالتزايُـدِ، وَبِـشِقِّ النَّـفسِ أُمْسِكُ لِسانيَ عن التَّـذمرِ عِندما يَـبدَأُ أَبي نِداءاتِ النَّومِ المُتتابِعَةِ للعائِلَةِ بَعدَ تَـناوُلِ وجبَةِ العشاءِ، فَأَحْسُدُ دَجاجاتِ جيرانِـنا لأنَّها ما زالتْ “تُـنَـقْـنـِقُ” بِصوتٍ مُنْـخَفِضٍ، وَأستَـلقي في فِراشي مُحَمْلِقاً في تَـشققاتِ السَّقْـفِ التي تُـشبِهُ شَرايـينَ الجسم، فتَـتَجمَّعُ حَـوْلَ “النوّاسَة” وتَـمُـدُها بالدَّمِ لِـتُضيءَ ليلاً، أَشعرُ بأني أُعاني من مُتلازِمَـةِ الشُّقوقِ وجَريانِها، فهي أَكثَـرُ ما يَلفِـتُ نَـظريَ في البيتِ والشارع والمدرسةِ وكُلِّ مكان، أَتَـخَيلُها كَـتَـشَـقّــقِ بَيضَةِ دَيناصورٍ سَيَـخرُجُ لِينـفُثَ نارَهَ قريباً.وما يُحيرُنِي ذلك “الشَّعْشَبون” الذي يَـقومُ كُـلَّ لَيلَـةٍ بإِلصاقِ بيتِهِ الواهنِ في زاوِيَـةِ الغُرفَةِ؛ وَتقومُ أُمي صَباحاً بِـتَـعْسيْـفِهِ بالمِكْنسة؛ وينسجُ خُيوطَهُ من جديدٍ بهدوءٍ عَجيب.تُلاطِفُ سِتارَةُ الشُّباكِ سَريريَ الخَشبيّ؛ لِـتُسلِّمُ على النَّائِمِ فيه، لكنَّ هُـناكَ روائحُ أُخرى لا تفارقُ جِهازِيَ التَّـنَـفسي.لَسْتُ أَدري لماذا يَـقْـتُـلُنِي الفَـزَعُ كُـلَّ لَيلة؟ وتَــنَهُـداتي تَـنْـفُثُ بُخارَ ماءٍ مثلَ غَـيمَةٍ ضَبابيةٍ تُحاربُ أَطيافاً تُهاجِمُها، فَأَنا لا أَعلَـمُ ماذا سَيَحصُلُ إنْ غَـفَـوْت!ما إنْ تُـقـفِلَ رُموشي أبوابَها على الحياةِ، تَحوطُنِي مِنْ كُلِّ اتجاهٍ الأَسلاكُ الشائِكةُ، فَتَـتَمزَّقُ مَلابِسيَ، وتَـتَناثَـرُ كُـتُبِـيَ فَوقَ الأَسلاكِ تارِكَــةً شُقوقاً في جَسَدي كالتي في سَقْـفِ غُرفتي، وأَصواتٌ مَجهولَـةٌ وَبعيدَةٌ تُلاحِقُـني طالِبةً مِني العودَةَ أو القفز، والعنكَبوتُ ينسجُ خُيوطَهُ كَذلكَ على السِّلْكِ الشّائِكِ بعددٍ أَكبرَ، مُلَـثَـمٌ يُناديني دُونَ صَوتٍ، فَحَركاتُ يَديهِ وَرَأْسِهِ كَـفيلَـةٌ بِـذلك، وَلا أَعلَمُ هَـل انطَبَعَتْ عَليها، أَم أَنَّـهُ تَغَـلَّبَ عَليها وَحَبَسَها في كُوفيّـتهِ!اثـنَينْ!لا يا حَج، ثَلاثة،نِداءاتُ الفـجْـرِ مع تَكبيراتِ الصَّلاةِ الَّتي كُـنْتُ أَسْمَعُها لمْ تَـكُـنْ إِلا أَصواتُ مُقاتِـلي الحَيِّ التي امتَـزَجَتْ مَعَ الأذانِ. استَـيـقِـظُ مَعَ ذلكَ الشُّعورِ الحادِّ في صَدرِيَ لِأُفَـتِّــشَ ذاكِرَتي عنْ بِـقايا حُلُمي،كَالمَوجِ أَسْـيرُ نُـزولاً “لِحوْش” الدَّار، فما زالَ تَــفكيري يَحْمِلُ خَـوْفاً ثَـقيلاً مُشتَّـتاً. أُحاوِلُ لَمْلَمَةَ أَفـكاري، وهلْ أَبدَأُ والدِي بِالتَّحِـيَّـةِ أمْ بالتَّـعزِيةِ؟ أمْ بنَشْرِ هُمومِـيَ بِـجانِـبِ صَحْنِ الفولِ وَحَـباتِ الفَلافِل، وَرَغيفِ خُـبزِ الطَّابونِ المُبَـقَعِ بالسَّوادِ؟ وَهَلْ أُطفِـئُ رائِحَـةَ النَّعناعِ مِنْ إِبـريقِ الشَّاي؟هلْ سَتَـنهالُ عَـلَيَّ عَشراتُ المَواعِظِ الأبويَّةِ الَّتي أَحْـتَرِمُها، وَأَكْـتَسِيَ بِدعَواتِ أُمي قَبْلَ الذَّهابِ إلى المدرسَةِ، أَمْ أَجلسَ وأُلْـقِيَ هُموميَ كَما هِيَ لهُما.أَسئِلَـةٌ كَـثيرَةٌ تُـتْعِـبُ تَـفكيريَ وَتَـتَرنَّحُ رِجلايَ مِنها؛ فَلا أَقـوى على السَّيرِ أَحياناً،كمْ نَحنُ أَشياءُ هَـشَّة!أَهْـرُبُ مِنْ أَحلامِيَ؛ لأَعودَ مَـرَّةً أُخرى وأُلَملِمَ شَتاتِيَ وَضَعفِيَ كَمَنِ انفَـصَلَ لحمُهُ عنْ عَـظْمِهِ، وَأَبحَثُ في أَعْـمَقِ كَيانِيَ عنِ السَّبَبِ، ومعَ ذلكَ أَسْتَمِـرُّ بالتَّـفَكُّـكِ.لكنَّ هذا الصَّباحَ ليسَ كَـغَيرِهِ، فَـقدْ بَدا الزِّقاقُ مُعْتِماً أَكثرَ، يَنْـتَـشِرُ فِيه السُّمُ الأبيضُ وأَنا فيهِ كَجَنينٍ في رَحِمٍ واسِعٍ، وَلمْ يَـتَـبَقَّ لِيَ إِلا ساعاتٌ لِأولَدَ منْ جَـديدٍ.جَلَسْتُ وَصَديقي عَلى الرَّصيفِ مُقابِل المدرَسَةِ نُـراقِـبُ دُخولَ الطُّلابِ وَتَردُّدَهُم الواضِحَ، فَكانتْ هَمَساتُهم مَسموعَةً لَلمُعلِّمِ المُناوب:اليومَ إِضراب؟ ومَجموعَتُهُ مِنَ الطُّلابِ بِأصواتِهمُ وحَـركاتِهمُ المُتَـتابِعَةِ الَّتي لا تَـمَلُّ التِّكرارَ، ولكنَّ ملامحَ وجهِ المعلمِ مثلَ خَـريطَةِ الوطنِ، وهلْ جَـفَّـتْ دُموعُ عَينهِ مثلَ بَحرِها الميت؟ واحتلَّتْ الأُخرى مِثلَ طَبريا؟يوزِّعُ عليهم ابتساماتٍ مُـتَـقطِّعَة مثلَ حياتِهم وعيشِهم ودراستِهم، أو يُعطِيَهُم جُرعاتٍ منِ الأملِ! وخَرجنا من المدرسةِ كَجـيشٍ تَـحـرَّرَ منْ ثَــكَـنَتِهِ، ونسيرُ بِفِـرَقٍ مُتتابِعَةٍ، وَكُـلٌ مِنا يحملُ جُعْـبَتَهُ على ظهرهِ، وبعدَ عِدةِ أمتارٍ تَوزَّعَـتْ الفِرقُ، منا عائِدٌ إلى بيتِهِ، وَبَعضُهم وَقَـفُوا مُتفرِّجِـينَ لا أَكثر.أنا وصديقي أدهمُ عُدنا إِلى الحَيِّ، ودخلتُ المسجدَ لأُصَلِّيَ العَصْرَ كَأَنَّـني صَغيرُ كَنغَرٍ لا يَشعرُ بالأمانِ إلا في جِرابِ أُمِّهِ. وكانَ من بينها يبرزُ آخِـرُ كِتابٍ فتحَـهُ صديقي الذي طالما تَطبَّعـت حياتُـنا من حِبـرهِ، ونَظرتُ إلى يميني مُخاطباً صَديقي…يتفقدُ جَسديَ بنظراتِ عينيهِ، وَيَـتَحَسَّـس شعرَ رأسِيَ وملامحُ الاستغرابِ لا تفارِقُهُ؛ لأَنَّهُ يعلمُ أنَّـنا لمْ نُشارِكْ في المظاهرةِ، ولكنَّه صديقِيَ العَطوفَ،وكيفَ جُرحَ عقلُكَ يا صديقي؟ مثل أَوراقِ خَريفٍ دَفَعَتها مَوجَةُ رياحٍ مَوسِميَّةٌ من خَلفِيَ،لا أَفهَمُكَ يا صَديقي. مَنِ الأوراق!إنها أيامُ حياتِيَ، وليالِي الحيِّ المُتعاقِبَةُ، إنَّها رائِحَةُ الياسَمينَ في كُلِّ مَكان…. وأعلـمُ أنَّ النَّومَ في حَيينا ليسَ مُتاحاً، فهو نِـداءٌ يَطرُقُ جُدرانَ قَلبِيَ، وأنْ أَتَجاوَزَ كُلَّ الأَسلاكِ الشَّائِـكَةِ في حُلُـمِي.أسلاكْ! حلمكْ! ماذا تقولُ يا صديقي؟ولا يعلمُ صَديقي عنْ ذاكَ المُلثمِ الذي ما زالَ يُـؤّشِّرُ بِـيَدَيهِ ويَحُـثُـنِي على التَّجاوِزِ، وَتجاوزِ الحَيِّ وتَـعَـثُرِي في طُرُقاتِهِ. لأنَّـه حينَ تضيقُ الحياةُ وتكثرُ الهموم؛ تَـتداخلُ المشاعِرُ والأفكارُ، وكل شيءٍ يتراكمُ فوقَ حياتِـنا.لقدْ قَرأتُ يا صديقي عِبارةً مِـنْ وصيَّةِ شَهيدٍ،“عَلينا أنْ نَـنْـفَصِلَ عن كُـلِّ شَيءٍ وَلو لِلحظةٍ واحدةٍ، أو لَحظاتٍ قصيرةٍ مُتـتابِعة، بَلِ المسأَلةَ كُلَّها، ونلجأَ إليهِ مُستعينينَ بهِ فقط، أنْ نتوحَّـدَ مع مَسيرِ نَبينا صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فَلا عِزَّ لَنا إِلا بِهِ”ولكنَّ المُلثَّمَ في حُلمي يبدو أنَّـه يحفظُ البوصلَةَ بعيداً عن أيِّ تشويهٍ ويدركُ الاتجاهَ عقيدةً ومبدأ.من هو الملثم؟لقد قلتَ أَنت، الملثم! فكيفَ أَعرِفُـهُ؟ ولكنَّـك سَتَعرِفُهُ أنت!كُلنا يا صَديقي قادرونَ على الكتابةِ والكلامِ، ولكنّ المدينَةَ أَصبَحتْ لِلصوصِ السِّياسةِ والمالِ والقراراتِ، بَـلْطَجةُ الرَّأيِ حَـوَّلَتْـنا لِمسخَرةٍ وطنيةٍ، فَـنِداءُ “الله أكبر” أقوى مِنَ الكُلِّ. لأنَّ جُذورُها في التّربَـةِ غَـيرِ المُباعَة!وَلكنَّـنا في ضَعْـفٍ وَهوانٍ وَذُلٍّ مُـنذُ زَمَـن…لَو يَعلـمُ صَديقي أَنَّني أَحتاجُهُ وَقْـتَ ضَعفِي؛ لأُخبِرَهُ عن حقيقةِ حالي، بَعيداً عن تفاؤُلي في كَلِـماتي، ولكنَّني سأعتادُ في النهايةِ، فَـقد تَعلَّمتُ من تَجارِبِ اللَّيالي أنْ لا بُـطولَةَ واضِحةً ولا كامِلةً في مواجَهَةِ الأفاعيَ السَّامَّةَ المُلتَـفَّـةَ حَولَ حَيينا وحياتِـنا، وحتى طموحاتِنا، ولم يبقَ لَنا سِوى ساعاتٍ من ليلٍ نسمعُ فيها زَئيراً مُبشراً.اعلمْ يا أَدهم، عِندما نَخَرَ سلامُهُم أَنيابَ قوَّتِـنا؛ واعتبروا سُمَّهُم مَناعَةً لنا ضِدَّ موتِنا!كنتُ في أحلامِي أقفُ على مفترقِ طُرقٍ ضَيِّقٍ، حيثُ يتقاطَعُ شارِعُ الحارةِ معَ شارِعِ المدينَةِ، وتَختَـفِيَ رائِحةُ الياسمينِ بعدَ التَّـقاطُعِ، ولا أَحَدَ يَتَجاوَزُنِي هُناكَ، وَتَـتجمَّدُ مخاوِفيَ كَأنَّها دَخَلَتْ فَصْلَ شِتاءٍ قاسٍ، وَيَـتَعَـرَّقُ جَبينِيَ وتَقوى رِجلاي، وَيُخيِّـمُ الصَّمْتُ العَميقُ على الكُلِّ إِلا لِسانِيَ لمْ يُغَلـفـهُ الصَّمتُ، وأَدْرَكْـتُ أنَّ الذينَ يَسيرونَ في المدينةِ منْ كِبارِ السِّنِّ في الوَطَنِيَّةِ خَذَلَتْهُم مَسيرَتُهم، ويَحرِقونَ كَراسِيَّهُم إِنْ جلسَ عَليها غيرُهم، وَيَلْبَسونَ أَحْـذِيَةً مِن قُماشٍ تَـبْتَـلُّ إِنْ وَطِئَتْ أَقدامُهم شارِعاً ويسيرونَ مِثْـلَ صُقورٍ نُزِعَ ريشُها ويعيشونَ بِكبرياءٍ كاذِبٍ، فقد أصبحوا حمائم وديعة،يعيشون في حاضر مقلق وَحُوصِرَ مُستقبَلُهم بألاعيبَ نَجِسَة، لا أعلمُ إن كانوا نادمينَ على تركِ وُجْـهَتِـهم في الماضي معتقدينَ أنَّهم قادرونَ على إيجادِها في المستقبلِ.الآلافُ تَمرُّ من أمامِ المقهى، ومنَ الصَّعبِ تمييزُ الأطفالِ من الشبابِ وحتى الشيوخِ،ما صرختهم؟يا أدهم، صرختُهم تكبيرُهُم في محرابِهم، ورصُّ صفوفِ أقدامِهم معَ أَنْـفاسِهم العالية.لقد هَجروا المَقهى، يسيرونَ نحوَ المُفتَرَقِ نحوَ رائِحَةِ الياسَمين ليزُفوا شَهيداً مُلَـثماً هُناكَ، ولِـيتَرَبى طِفلٌ آخرَ على رائِحَةِ الحيِّ ليكونَ شَهيداً آخر.يبدو أنَّـنا يا صديقي نعيشُ زمنَ خِطاباتِ النِّـهاياتِ وأَفعالِها، لنحتميَ بالأقواسِ والقبابِ، فهيَ عَرينُ الصادقينَ المُخلِصينَ.لقد عُـدتُ إلى الحيِّ دونَهُ هذهِ المـرَّة،