لكن بدأ المفهوم بالتغير على يد ديفيد بيتم في كتابه "شرعنة القوة" حيث يرى الشرعية مفهومًا علميًا اجتماعيًا يمكن قياسه وتحديد عناصره الأساسية ووضع له ثلاثة شروط قابلة للقياس: وتطلق الشرعية والسلطة على نفس المفهوم أحيانا بينما لا يرى روسو صاحب العقد الاجتماعي غير ذلك. ملاحظة: لكن لا نستطيع اعتماد شرعية بيتم لأنه كان يصك مفهوما جديدا، يمكن تحديدها من خلال الاستقراء وهي: 1- شرعية الدم / العائلة: ولا يمكن عدها مصدرا مستقلا - رغم أن أكثر من أربعين دولة اليوم تنص دساتيرها على أن نظام الحكم فيها يعتمد على صلة الدم - لأنها في الحقيقة ترتبط بأسباب أخرى للشرعية، ومن الأمثلة على ذلك أن العرب لم تبايع قريشًا ولم يعتقدوا أحقيتهم في الحكم رغم كبر القبيلة ومكانتها المعروفة عند العرب، ومن أمثلة ذلك: السلالة الحاكمة البريطانية تولدت شرعيتها من إنجاز الجد الملك ألفريد لا من الشرعية العائلية لأنها ليست مصدرا مستقلا لتوليد الشرعية. وتتقاطع السلطة الدينية مع السلطة السياسية - مع فشل محاولة العلمانية في الفصل بينهما - في كثير من الأمور لأنهما تدوران في فلك الأمر والنهي وتحديد المصالح وتقييد بعض الحرية. وهي متوافرة في الحضارات الهندية والصينية والمصرية وغيرها، وتختلف الحالة الإسلامية عن كل ما سبق من خلال الإيمان بأن: رغم أن الدولة الإسلامية كانت تعيش مظهرا ثيوقراطيًا إلا أنها: - لم تعتقد ألوهية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بل السلطة التي كان يمتلكها منفصلة عن شخصه. فضلا عن نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. - التطبيق العملي للدولة للجيل الذي عاش مع مؤسس الدولة ليس فيه أي مظهر ثيوقراطي. - هناك مظهر من الممكن الاختلاف عليه وهو "النص المقدس" حيث ينظر إليه الآخرون على أنه مظهر مدني- دستور كما للدول من دساتير ملزمة - وينظر إليه البعض على أنه مظهر ثيوقراطي. والمشكلة لا تكمن في الغطاء الديني بل: بينما دارت كتابات معظم كتاب السياسة الشرعية حول حالة حقيقية وهي الخلافة التي كانت مطبقة بالفعل أدى ذلك لتطور الفكر السياسي الإسلامي في اتجاه واحد حتى القرن العشرين. أما في الفكر الإسلامي مصدر سلطة الأمة بمجموعها هو "الله عز وجل". ويبنى على الفروقات السابقة: - اختلاف المرجعية العليا بين فكرة التفويض الغربية وفكرة التفويض الإسلامية: هي مفهوم الإدارة العامة الذي يتسم بالمرونة عند أصحاب نظرية العقد الاجتماعي، بينما هي مبادئ فوق دستورية بعضها مرن وعام وبعضها محمد وثابت في المنظومة الإسلامية. أما في الجانب الآخر ترتبط شرعية الحاكم بمبادئ دنيوية ولا يتدخل الجانب الديني إلا في نطاق ضيق. أما في المنظومة الإسلامية فهناك شروط لاختيار الحاكم مثل العدالة والاجتهاد وحدود عمله يحددها الشرع لا الشعب. مصادر السلطة السياسية في العصر الراشد التي تشكل الصورة المثالية لحالة الدولة الإسلامية بالاتفاق من ناحية فلسفة الحكم والنهج السياسي السائد. أولًا: عهد مؤسس الدولة أي ما قبل الخلافة: اختلف في تحديد بداية الدولة الإسلامية الأولى بين من يقول أنها بداية الدعوة ومن يقول أنها بيعة العقبة إلا أن القيام الحقيقي الذي عليه المعظم وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وبناء المسجد وإعلان وثيقة المدينة حيث كانت شروط بناء الدولة التي أتمها: - إنشاء كيان محدد الحدود حيث أرسل أصحابه ليضعوا أعلاما على حدود المدينة من كافة الاتجاهات. - كيان ذو سيادة وسلطة متمثلة في حاكم ودستور له ثلاثة معالم: ب- وثيقة المدينة التي فيها إعلان الدولة وتنظيم علاقاتها الداخلية والخارجية ونصوص القضاء المختلفة وغير ذلك. ج- الأفعال النبوية المفسرة لنصوص القرآن والدستور. وميزات هذه الفترة: - تأسيس الدولة لم يكن هدفا بذاته بل جزءا من مسيرة الدعوة الإسلامية التي من آثارها بناء الهوية الإسلامية المختلفة عن غيرها والتي تشكل أساس الدعوة التي هابتها قريش. ثانيًا_ الخلافة الأولى: تبدأ بمبايعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه صاحب مؤسس الدولة الذي وصف بالوزير صاحب الفضيلة الدينية والقوة السياسية القيادية مما جعله مناسبا ليكون الخليفة إذ لا يكفي الاتصاف بالفضيلة الدينية لتولي المنصب وخير شاهد على ذلك قصة سيدنا أبي ذر الغفاري وبهذا يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم الجيل الأول التمييز بين الفضيلة الدينية والفضيلة القيادية. فدور الصديق رضي الله عنه وموقعه من مؤسس الدولة صلى الله عليه وسلم جعل كبار الصحابة المشاركين في تأسيس الدولة يعتبرون خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه تحصيلا حاصلا وقد دل على ذلك حادثة ثقيفة بني ساعدة بأصح رواياتها التي جاءت في صحيح البخاري رحمه الله تعالى والتي بعد دراستها يجب التنبه إلى عدد من النقاط: - كان جميع الصحابة رضي الله عنهم يعرفون مدى خطورة ترك الدولة الإسلامية دون رأس للسلطة السياسية فهرعوا لاختيار الخليفة، ويجدر التنبيه إلى أن قدرة بقاء العقيدة الإسلامية بكل سهولة دون وجود الكيان السياسي الموحد وخير دليل زماننا الذي ليس فيه كيان سياسي موحد، لكن قادة المجتمع يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم أسس دولة قائمة على هوية سياسية لا أيدلوجيا فحسب. - حالة الرجلين من الأنصار اللذين لقيهما سيدانا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما تدل على الحالة العامة للمجتمع المديني من معرفة مكانة الصديق والفاروق رضي الله عنهما والإقرار بسيادتهما. - إدراك الجميع بما فيهم سيدانا أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لخطورة الموقف وأن المجتمع معرض للفتنة فحرص الجميع على عدم ترك مجال للتفكير أو فض المجلس دون إصدار القرار. لكن لما استقر عندهم أن المهاجرين لن يتركوا المدينة وأن أبت بكر هو المقابل لما سيختارونه وذكرهم أبو بكر وعمر بحديث النبي صلى الله عليه وسلم فرجعوا عن رأيهم. - لم ينكر أبو بكر وعمر وأبو عبيدة رضي الله عنهم على الأنصار كلامهم بل أثنوا وعللوا وذكروا أسباب أحقية القرشيين بالحكم فاقترح الأنصار فكرة الأميرين. - كان موقف رفض تعدد رؤوس السلطة صارما لورود النص "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما" ولمشاكله الكثيرة. - بعد كثرة الاقتراحات كان العامل الأساسي لحل المشكلة إقدام الفاروق ليطلب من أبي بكر أن يبسط يده للمبايعة فيبسط أبو بكر يده ويبايعه سيدنا عمر ثم باقي الحضور وفي هذا إشارة إلى أن المجتمع يعتقد أنه لا يستطيع أحد أن يتقدم على أبي بكر الصديق والجميع يعلم أن البيعة هي إعلان الطاعة بمعنى أنها عقد توكيل. ويلاحظ: تأخر سيدنا علي بن أبي طالب في مبايعة سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ويعلل ذلك بأن سيدنا علي رضي الله عنه وجد في نفسه لعدم استشارته في الأمر مع أنه يرى في نفسه الأهلية للاستشارة وربما للحكم. فيمكن استخلاص اتفاق الصحابة رضي الله عنهم على أن القرابة ليست عاملًا مؤثرًا في تولي الحكم على عكس النظرية السياسية الوراثية التي انتشرت لاحقًا ثالثًا: الخلافة الثانية: أما عن أثر سيدنا عمر في نظرية السلطة الإسلامية يكمن في طريقة تولّيه الخلافة وتوليتها لمن بعده. أما عن قصة توليه الخلافة ترويها كتب التأريخ ونستطيع من خلالها التنبه إلى ما يلي: - حرص الصحابة رضي الله عنهم على استمرار كيان الدولة واهتمامهم باختيار رأس النظام السياسي قبل حصول أي خلاف. إن مما يميز هذه الفترة: الذي قرره سيدنا عمر رضي الله عنه واستطاع علماء السياسة الشرعية استنباط فكرتي منه، وفكرة جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل. ويجب أن نتنبه إلى ما يلي: - سرعة الاستخلاف التي كان يريدها سيدنا عمر رضي الله عنه لتفادي الخلاف والمشاكل.