قيود باهظة وأمانة صعبة ، تفرضها قوانين الفن ويخضع لها الأديب الحر دون أن تجبره عليها سلطة آمرة ! وعصرنا الذى يهيم بالحرية وبعدها حقاً شرعيا للفرد والجماعة ، ينيط بالفن عبء الدفاع عن هذا الحق ، وقيادة الجماهير والشعوب وجدانيا إذ تخوض معاركها الباسلة من أجل التحررفكيف يتصور أن نعطل حرية الفن ونقيده بأغلال الإلزام ، واختلاف النظرة إلى الحرية باختلاف البيئات والعصور ، أمر طبيعي لا غرابة فيه . ولكن يبقى هناك دائماً أن الإنسان تطلع إلى الحرية منذ كان ، وقد مرت عليه عصور رزح فيها تحت كابوس الرق ، لكنه لم يكتف قط عن التمرد علىالأغلال . فهل كان في تمرده إنما يلتمس النجاة من براثن الاستغلال الطبقي أو الإقطاعي أو الرأسمالي، ويتجه في مسعاه إلى الحرية بتأثير الدوافع المادية فحسب ؟ هكذا تقول النظرية الماركسية في التفسير المادى للتاريخ لكنها لا تعطينا تفسيراً مقنعاً ، لمن يدافع عن حريته بدمه ، ومليون شهيد في معركة الجزائر وحدها ، رفضوا الحياة مع رق الاستعمار ، يكفى لأن يعطى قيمة جديدة للحرية في عصرنا ، بحيث لا تعود مجرد صراع حول المادة أو تنازع على البقاء المادى ، لا تقوم حياته بدونها وأقول إنسانية الإنسان ، فأذكر على الفور أن " نظرية دارون " تقف بهذا الإنسان عند نهاية شوط طويل على مدرجة تطور استغرق ملايين السنين ليترقى من طور الحيوانية ، وأرى المادية تهبط بالإنسان عن الحيوان الذي يضيق بقيود الأسر ، ويتململ في أقفاصه وسجونه بحدائق الحيوان، حيت الطعام وافر والحاجات المادية مقضية ميسرة ومفهوم الحرية في الأدب والفن ، لا ينفصل عن مفهوم الحرية العامة التي يدين بها إنسان العصر إن الحرية لا تعنى الإباحة والفوضى والتحلل ، بل هي في صميمها أمانة صعبة ومسئولية باهظة وقيود صارمة . وأخطر ما تتعرض له الحرية - فى أى مجال لها هو الجهل بتبعاتها ومسئوليتها ، و اختلاط مفهومها بشوائب ضالة من الفوضى والتحلل والإفلات فالأصل في الحرية على غير ما يتصور بعضنا ، أن تكون قيداً والتزاماً وجوهر الفرق بينها وبين العبودية أن قيود الحر مفروضة عليه من تلقاء نفسه ، يلتزم بها عن طواعية واختيار ، أما قيود العبودية فيفرضها الغير قسراً ، على وجه القهر والإلزام . وحرية الكلمة أرقى أنواع الحريات لأنها أداة التعبير الحر، لكرامة الإنسان في أخص ما يميزه عن الحيوان الأعجم . وحين تمارس حرية الكلمة في المجال العام تزيد مسئوليتها خطراً ، بحكم خروجها من نطاق الحرية الفردية لشخص الأديب وحده ، وهذا التقدير لحرية الأديب ، يتجه كذلك إلى حرية الناقد الأدبى ، بمقتضى حقه في حرية الكلمة ، تبعة المشاركة في التوجيه الفكرى للأمة والتأثير على وجدانها العام ، وعلى وجودها المعنوى الذى هو مناط سلامتها وحياتها . ولا يتصدى لهذه التبعية إلا القادر على احتمال قيودها الباهظة المقدر الجلال وأبسط تفريط فى هذه التبعات أو تهاون بتلك القيود ، يضع الأديب والناقد دون مستوى الحرية للكلمة المسئولة قائدة وناقدة . لكنها قيود تفرضها قوانين الفن ، ويلتزم بها الأديب الحر دون أن تجبره عليها سلطة آمرة ! لا تعنى الحرية إباحة المجال الأدبى لكل من هب ودب،