#ا أقوال في البلاغة :قلنا: إن البلاغة لغة هي الوصول والانتهاء. وقبل أن تستقر البلاغة علماً له موضوعاته ومسائله . كانت تتحاذبها جهات متعددة» وهذه الجهات ؛ رغم اختلافها وتعددهاء إلا أنها يجمعها شيءٌ واحد. وهو أنّها تدل على الجودة والروعة والتأثير» فهي كلام يجيش في الصدور, فيقذف على الألسنة» وصفتها المميزة لها الإيجاز؛ كما قال صحارٌ الشاعر حينما سأله معاوية(), فلم يكن لفظه أسرع إلى أذنك من معناه إلى قلبك» فاللفظ والمعنى يتسابقان؛ فاللفظ يريد أن يصل إلى الأذن أولاًء ولكن المعنى يزاحمه ليصل إلى القلب كذّلك. ولكن ابن المقفع'') يوسع دائرتها ليجعلها تنتظم وجوها كثيرة. فيقول: «البلاغة اسم يجري في وجوه كثيرة : منها ما يكون في السكوت» ومنها ما يكونٌ في الاستماع. ومنها ما يكون فعرا متها ايكون جع : ومنها ما يكون خطباء وجا كانت رسائل. فعامّةٌ ما يكون من هذه الأبواب, فالوحي فيهاء والإشارة إلى المعنىأبلغ» والإيجاز هو البلاغة»”2. أما عمرو بن عبيد7"؛ فمع أنه توسّع في مفهوم البلاغة كذلك. فهو يعد البلاغة : دما بلغ بك الجنة. وحال بينك وبين النار» .ا الراغب! الأصفهانى والبلاغة : كل هذه التعريفات ؛ليست هى الهدف الذي نودٌ أن نصل إليه. وإنّما نريد أن نصل إلى البلاغة بعد أن استقرٌبها المقام» وأصبحت لها جنسيّتها الخاصة بهاء وموطنها الدي لا تزاحم فيه. ونحسب أن الراغب الأصفهاني رحمه الله كاد موفقاً كل التوفيق ‏ شأنه في كل ماعرض له وتحدّث عنه ‏ فلقد أدرك - ببصيرته النثاذة؛ وذهنه وفهمه الذكي ‏ حقيقتها؛«البلاغة تقال على وجهين :أحدهما: أن يكون بذاته بليغا. وذلك بأن يجمع ثلاثة أوصاف؛ صواباً في موضوع لغته. وطبقاً للمعنى المقصودء وصدقاً في نفسهء ومتى اخترم وصفٌ من ذلك ؛والشاني: أن يكون بليغاً باعتبار القائل والمقول له. فيورذه على وجه حة حقيق أن يقبله المقول له وقوله تعالى : ول لَهُمْ في أنفُبهم قولاً بليغاً» [النساء "51]؛ونستخلص مما ذكره الراغب أن البلاغة تكون في الكلام. فكما يقال: كلام فصيح . وأن بلاغة الكلام لا بد أن تستجمع أموراً ثلاثة:أولها: صحة اللغة وصوابها.ثانيها: أن يكون المعنى المقصود للمتكلم مطابقاً ومنسجماً مع الالفاظ التي استعملها المتكلم .الثها: أن يكون صادقاً في نفسه.ونظن أن عبدالقاهر ‏ رحمه الله ومن جاء بعده لا يخرجون عما ذكره الراغب ٠.‏ فلقد أدرك الراغب أكثر من ملحظ في تعريف البلاغة؛ وموافقة المعنى المقصود ثانياًء والتأثير النفسي ؛ لأن الذي يستطيع أن يؤثر في النفوس هوالذي يكون صادقاً مع نفسهء وليست البلاغة شيئاً غير هذا. #ا البلاغة في الاصطلاح :يقول صاحب «التلخيص» في تعريفها البلاغة في الكلام مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته. فالبلاغة راجعة إلى اللفظ باعتبار إفادته المعنى بالتركيب)2. البلاغة إذن تقوم على دعائم : أولاها: اختيار اللفظة . وثانيها: حسن التركيب وصحته . وثالئها: اختيار الأسلوب الذي يصلح للمخاطبين» مع حسن ابتداء؛ وبقدر ما يتهيا من هذه الدعائم ؛ يكون الكلام مؤثراً في النفوسء والتأثير هو الدعامة الرابعة من دعائم البلاغة. البلاغة إذن لا بد فيها من ذوق وذكاء. بحيث يدرك المتكلم متى يتكلم » ومتى ينتهي , وما هي القوالب التي تصبٌ فيها المعاني التي رتبها في نفسه, فربٌ كلام يكون جميلا في نفسه. لكنه لم تُراعَ فيه هُذه الظروف» فتكون نتائجه عكسية غير متوقعة . يقول ابن عباس رضي الله عنهما: «خمس لهن أحب إلى من الدُهم الموقفة أي : الخيل العربية الأصيلة ‏ لا تتكلم فيما لا يعنيك؛ ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعاً. فربٌ متكلم تكلم فيما يعنيه. وكتب الأدب ذكرت كثيراً من الشواهد التي تهيأت لها فصاحة الكلمات. دوث مراعاة المقام الذي قيلت فيه ؛ وَإمًا لأنهم أهملوا ما لا يجوز إهماله من العناية بالمئاسبة , دحل أبو النجم على هشام بن عبدالملك”"' فأنشده :صَفْراءُ قد كادث ولماتَفْعل كأنهافي الأنق عينُ الأمحوّلوكان هشام أحول» فأمر بحبسه ,ومدح جرير() عبدا لملك بن مروان”) به بقصيدة مطلعها: 21 ل 7 27 اتصحو أم فؤادك غير صاحفاستنكر عبدالملك هذا الابتداء» وقال له: بل فؤادك أنت.ونعى علماء الأدب على البحتري أن يبدأ قصيدة ينشدها أمام ممدوحه بقوله : انلزال ون قل اشام زروعابوا على المتنبي قوله في رثاء أم سيف الدولة 59):نه +#التقيها ترط على الوَجْه المُكَفْن بالجمال «)قال ابن وكيع : «إن وصفه أمّ الملك بجمال الوجه غير مختار»'"' .وَالمُحْدَئُونَ الذين كتبوا في البلاغة يقررون هذه القواعد المؤيدة لما ذكره الأقدمون» وقد يزيدون القضية إيضاحاً. فهذا الاستاذ أحمد حسن الزيات ‏ رحمه الله بعد أن ينقل كثيراً مما قيل في البلاغة؛ لا عند العرب فحسبء وإنما عند الأوروبيين كذلك؛ بعد أن ينقل ذلك كله يقول:«والناظر المستقصي في أقوال مؤلاء وأولئك يستطيع أن يستخلص من جملتها أن البلاغة هي بمعناها الشامل الكامل ملكة يؤثر بها صاحبها في عقول الناس وقلوبهم؛ من طريق الكتابة أو الكلام. فالتأثير في العقول عمل الموهبة المعلّمة المفسّرة» والنأثير في القلوب عمل الموهبة الجاذبة المؤثرة» ومن هاتين الموهبتين تنشأ موهبة الإقناع على أكمل صورة وتحليل ؛ ذلك أن بلاغة الكلام هي تأثير نفس في نفس» وفكر في فكر والأثر الحاصل من ذلك التأثير هو التغلب على مقاومة في هوى المخاطب,وهذه المقاومة تكون فاعلة كسبق الإصرار, وقد تكون منفعلة كالجهل, فإذا كانت منفعلة كانت ضعيفة» لا يُحتاج في قهرها إلى الوسائل البلاغية القوية.فالمرء يجهلء أو يشك. وهو في مثل هذه الأحوال تكفيه الحقيقة البسيطة المستفادة من التعليم. وقد يكون مع الجهل زيف العلم؛ وخطل الرأي الثابت باستمرار العاذة» وفساد الوهم القائم على قوة القريئة. وحينئذ لا بد أن تتناصر قوى العقل جمعاء على كسر هذه المقاومة من طريق البرهان, والجدل عصب البلاغة.فالبلاغة إذن توجُه إلى العقل. تبعاً لما تقتضيه حالات الممخاطبين من مقاومة الجهل والرأي والهوى منفردة أو مجتمعة, فإذا كان غرض البليغ نفي جهالة:؛ جزاه في إصابة غرضه الصحة والوضوح والمناسبة, فإذا أراد التعليم أو الإقناع» وكان قوام الموضوع طائفة من الفكر أو الأدلة؛ وجب عليه أن ينسقهاء ويسلسلها على مقتضى الأصول المقررة في المنهج العلمي الحديث. أما إذا فصد إلى التأثير والإمتاع. كان سبيله أن يتأنق في اختيار لفظه؛ ويستعين على اجتذاب الأذهان واختلاب الآذان بإبداع الملكة.وهذا هو شرح ما قاله الأقدمون من أن البلاغة هي مطابقة مقتضى الحال» فلكي نؤثر في نفوس المخاطبين لا يصح أن نخاطبهم بما لا تستطيع أن تدركه عقولهم , أو بما يجرحهم في مشاعرهم وعواطفهم , أو بما لا يتفق وينسجم مع اهتماماتهم وجاجاتهم . ما هي آلة البلاغة ووسائلها؟لا بد للبليغ حتى يستحق هُذا الوصف من أمرين اثنين: أحدهما لقي موهوب» وثانيهما لقي مكتسب.أما الأول: فلا بد له من ملكات أربع. وعاطفة جياشة قوية. وخيال خصب ثري . وأذن تحسٌ بجمال الجرس » وتلذ بجمال الإيقاع .وأما الأمر المكتسب: فهو القراءة» وبخاصة علوم اللغة مع معرفة بأحوال النفوس البشرية, وإلمام ومعرفة بما يحيط به من البيئة الطبيعية والاجتماعية .نَّ البليغ لا بدٌ له من ذلك كله ولهذا نجد العالم الكبير حسين المرصفي ‏ رحمه الله - وهو الذي تتلمذ له كثير من أولئك الذين اشتهروا بالأدب في مصرء نجده قد وضع كتابه «الوسيلة الأدبية)»؛ حتى تصبح البلاغة ملكة فيهم .ليطن لان "شنط افع انو مده بيعو الوعنل ساسهابينا: أذكر أنني التقيت في باكستان بجماعة يحفظون «التلخيص» للقزويني. ومع ذلك يعسّر على أحدهم أن يكون جملتين وينطق بهما على حال يرضي المتكلم, بل لماذا نبعد كثيراً» فنحن نعرف أن بعض شيوخ أساتذتنا كان يدرس شروح «التلخيص» وما كتب عليه من حواشي وتعليقات» ومع ذلك؛ حيئما يريد كتابة كلمة لإلقائها في محفل ماء كان يكتبها له بعض تلاميذه. وخبر العالم اللغوي أبي عباس المبرّد وهو يحدث عن نفسه حيئما أراد أن يكتب كلمة يشكر فيها بعض الناس الذين ذكروه بخير؛ خبره مشتهر معروف عند الأدباء .تلك هي أسباب البلاغة وآلاتها إذن: الطبع الموهوب. كما يقول الأستاذ الزيات ‏ رحمه الله وهذا ما أشار إليه وبيّنه الزنمخشري )7‏ رحمه الله تعالى ‏ في مقدٌّمة «كشافه؛»؛ وهو يحدثنا عن أن كثيراً من العلوم يسهل على المرء أن يحذقهاء إلا علم التفسير المبني على علمي المعاني والبيان» وما يحتاجه مّنْ تعاطى هذه الصنعة.«لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق؛ ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق؛ إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن. وتمهل في ارتيادهما أونة» وتعب في التنقير عنهما أزمنة؛ وبعثته على تتبع مظانهما همة في معرفة لطائف حجة الله؛ وحرص على استيضاح معجزة رسول الله بعد أن يكون آخذأ من سائر العلوم بحظ. جامعاً بين أمرين؛ ورد ورد عليه فارسا في علم الإعراب مقدَّماً في حملة الكتاب» وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها مشتعل القريحة وقادهاء يقظان النفس, درّاكاً للمحة وإن لْطف شأنهاء منبهاً على الرمزة وإن مكائهاء لا كرا جاسياًء ولا غليظا جافياً. متصرفاً ذا دراية بأساليب النظم والنشرء مرتاضاً غير ريض بتلقيح بنات الفكر. طالما دقع إلى مضايقه. ووقم في مذاحخضهة ومزالقه)” .لا بد لمتعاطي البلاغة إذن لكي ينمي خياله, لا بد له من معدة علمية تهضم كل ما تقرأء فبقدر ما يقرأ ويهضم يكون أكثر إمتاعاً» يجتذب القلوب والأذهان» ويختلب الأسماع والآذان. لا بد بعد هذا الحديث عن الفصاحة والبلاغة,