وقال: إن الله تعالى أغنانا بالقرآن لقوله فيه : وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِك شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ يبيا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَيُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (١) [النحل: ۸۹]، فلا يحتاج معه إلى سُنة، فلماذا نتكلف البحث فيها والركون إليها أو الاحتجاج بها ؟ لماذا نتكلف هذا مع أن الله تكفل لنا ببيان كل ما نحتاج إليه في محكم (A) كتابه لقوله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ وهو القرآن تِبْيَنَّا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (۳) فلا حاجة إلى أن نكلف أنفسنا عناء البحث في سنة رسول الله الا الله لنعمل بما فيها وقد أغنانا (۱) بالقرآن عنها، ويقول سبحانه في آية أخرى: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَيْرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَبِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (3) (۲) [الأنعام: ٣٨]، فيكون المعنى ما فرطنا في القرآن من شيء، ففي القرآن كل شيء فلا حاجة إلى السنة، وهذا إنكار للسنة بجملتها أو إنكار للحاجة إليها وإلى الاحتجاج بها في الجملة، اكتفاء بما جاء في القرآن بهاتين الآيتين. * الجواب على هذه الشبهة: وقد أجاب العلماء عن الاستدلال بهاتين الآيتين بأجوبة منها : أنه أراد بقوله تعالى : في الْكِتَابِ، في قوله تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَبِ مِن شَيْءٍ (۳) [الأنعام: ۳۸]، المراد به اللوح المحفوظ . ولم يكن نزل من القرآن إلا قليل سورة البقرة مدنية، مدنية كثير من آيات الأحكام والفروع كثير منها مدني، وما يتصل بالصلاة إنما وضح وتبين وتكامل في المدينة وأحكام المعاملات إنما نزلت في القرآن بالمدينة ونزلت أصولها في القرآن بعد الهجرة، وأحكام الجنايات من قصاص وديات نزلت في المدينة. والسورة سورة الأنعام كلها مكية على الصحيح قد يكون منها آيات تشبه الآيات المدنية، كآيات الذبح وذكر اسم الله على الذبائح قد يكون مثل هذا نزل بالمدينة، فكيف يكون القرآن ؟ كيف يكون في الكتاب الذي هو القرآن بيان كل شيء في الوقت الذي نزلت فيه هذه الآية ؟ مع أن تلك الأحكام إنما نزلت أصولها في المدينة لا في مكة. ثم عدد الصلوات وتحديد أوقاتها وعدد ركعاتها وسائر كيفياتها؛ لم تُعرف من القرآن إنما عُرفت من السنة. أحكام الزكاة من جهة النصاب ومن جهة المستحقين لم تكن عُرفت في مكة، بل فريضة الزكاة لم تكن شرعت في مكة إنما الذي شُرع الصدقات العامة، وفرض الزكاة وبدايتها إنما كان في المدينة، فبيان المستحقين للزكاة إنما نزل في المدينة في سورة التوبة: إِنَّمَا الصَّدَقَتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَكِينِ وَالْعَمِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ )) (1) [ التوبة: ٦٠] إلى آخر الآية التي فيها الأصناف الثمانية، ثم النصاب نصاب الزكاة ليس محددًا في القرآن وشرطها وهو حول الحول ليس محددًا في القرآن ولا مبينا فيه. فالواقع يدل على أن القرآن اشتمل على الأصول العامة، (۲) تفسير الكتاب في قوله تعالى : ما فَرَّطْنَا فِي الْكِتَبِ مِن شَيْءٍ : فتفسير (۳) الكتاب بالقرآن في آية : ما فَرَّطْنَا فِي الْكِتَبِ مِن شَيْءٍ تفسير غير صحيح، إنما المراد به اللوح المحفوظ الذي هدى الله تعالى القلم أن يكتب فيه ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة. أما الآية الأخرى وهي: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ تِبْيَنًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (٤) [النحل: ۸۹] فيقال فيها : المراد بالكتاب القرآن، ولكن سورة النحل التي نزلت فيها هذه الآية أو هذه الجملة سورة مكية، ولم يكن نزل التشريع كله في مكة إنما نزلت أصول التوحيد وما يتصل بمعجزات الرسول الله في مكة، وأما الفروع فقد نزلت في المدينة. وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ تِبْيَنَّا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ فكيف يقال : لِلْمُسْلِمِينَ ) (۱) [ النحل: ۸۹] ، بالكتاب في هذه الآية من سورة النحل القرآن، لكن ليس المراد ببيانه لكل شيء بيانه الجميع أحكام الفروع إنما هو مثل الآية التي قال الله فيها: تُدَمِرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَها (۲) [ الأحقاف ۲۵] ؛ إخبارًا عن الريح التي أرسلها الله جل شأنه على عاد قوم هود، أرسل عليهم ريحًا وقال: ﴿ تُدَمِّر كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ) إنما دمرت قوم هود دمرت عادًا ودمرت ديارهم، أو الأدلة الحسية وواقع الهالكين الذين هلكوا وتحدث الله عنهم في القرآن يدل على أن المراد بالآية الخصوص لا العموم، كذلك قوله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ تِبْيَنَا لِكُلِّ شَيْءٍ (4) إلى آخر الآية هي مما أريد به الخصوص، وإلا ففي أي آية من الآيات بيان عدد الصلوات وبيان تفاصيل الزكوات، أو بيان الحج إلى بيت الله الحرام بأصله وتفاصيله ؟ لم يكن شُرعَ في هذا الوقت إنما شُرعَ في المدينة في السنة التاسعة أو السنة العاشرة على الخلاف بين العلماء، وما كان من حج قبل ذلك فهو على الطريقة الموروثة عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لما بنى البيت هو وابنه إسماعيل، وأمره الله أن يؤذن في الناس كان الحج مشروعًا، وممتدا شرعه من أيام رسالة إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى أيام العرب في زمن النبي وبعد زمنه أما فرضه في شريعة محمد ﷺ فقد نزل ضمن آيات سورة آل عمران، إنما نزل في السنة التاسعة من الهجرة أو في السنة العاشرة التي حج فيها رسول الله ﷺ فكيف يقال تِبْيَنَّا لِكُلِّ شَيْءٍ » (۱) [ النحل (۸۹] ، وهو لم يتبين فيه أصل فرضية فكيف يقال الحج ولا تفاصيل الحج ولا تفاصيل الصيام. والصيام أيضًا فُرض في المدينة بعد الهجرة بسنة، والجهاد بالسلاح وتفاصيله ؟ والبيوع وتفاصيلها ؟ ، فالآية إما أن يقال فيها إنها من العام الذي أريد به الخصوص، وإما أن يقال: تبيانا شيء شرعه وفرضه على المسلمين وهم في مكة؛ تبيننا لكُل مما أوجبه عليهم وشرعه لهم لا أنها بيان لكل حكم من أحكام الإسلام. فهؤلاء الذين أنكروا السنَّة جُملة أو قالوا لا حاجة إليها جملة بتمامها اكتفاء بالقرآن واستدلالا بهاتين الآيتين قد أخطأوا الطريق ولم يعرفوا تاريخ التنزيل، ولم يعرفوا واقع التشريع وأن بيان ما في القرآن من العبادات والمعاملات واقع في السنّة، ثم أين تحريم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها ؟ أين تحريم زواج الإنسان بامرأة أبيه. إنما كان هذا كله في المدينة تفاصيل الأحوال الشخصية من مواريث، وطلاق تفاصيل هذا كله إنما كان بالمدينة في الآيات التي نزلت بالمدينة، وعمل المسلمين جميعًا: برهان واضح يدل دلالة ضرورية على أن السنة جاءت بيانًا للقرآن بيَّنت في مكة ما يحتاجون إليه بقدر ما نزل من أحكام أصول التشريع، وبينت في المدينة ما طرأت الحاجة إليه من بيوع ومعاملات، كل هذا ما نزلت تفصيلات آياته إلا في المدينة ولم يبيّن الرسول تفصيله قولا وعملا إلا في المدينة. فهذا الاستدلال بالآيتين استدلال مردود ولا نقول الآيتان ، مردودتان هذا هو التعبير الدقيق ما يقال رد على الدليل بكذا ، إنما يقال رد على استدلالهم بالآيتين بكذا . قلت ابتداءً : إن موقف الداعية من المدعوين يختلف باختلاف حالهم، فمن أنكر الاحتجاج بالسنَّة جملة اكتفاءً بكتاب الله - احتج بالآيتين والرد عليهم كما سبق ذكره.