يكون السباق الأول مناسبة يستحيل أن أنساها ما حبيت ولحظات إثارة وترقب ما زلتُ أشعر بها كلما تذكرتهاإنها اللحظات الأولى دائما تبقى معنالا تذهب الخيل الأولى السباق الأول، هي لحظات تبقى محفورة للأبد.انتشرت أخبار التحدي الذي أعلنه والدي في كافة الأرجاء جهز الشيخ مكتوم "العودة"، المهرة القادمة من سلالة "ويدتن"، وكان الشيخ حمدان يعمل مع الفرس "حمدانية"أما أنا فكنتُ سعيداً مع فرسي "أمحلح".توالت أفواج الناس الذين حضروا من مناطق الإمارات كافة. وعندما شعرت عائلتي وشعب دبي بأسره بأنها دعوة عامةقام كل بيت بالطهي لأبناء القبائل القادمين لحضور الحدث، رجالاً ونساءًفجمعت الحيوانات وذبحت استعداداً للمناسبةوكانت النساء قد أعددن العطور منذ أسابيع ليتطيب بها الضيوف بعد تناول الطعام وكان الرجال الذين يفرضون الشعر يحضرون قصائدهم ويتمرنون على القائها، ويقومون بتشذيبها في المجلس" لتُقرأ على مسامع الزوّار الشيوخ وهناك من الرجال من كان يقوم بنشر الأخبار عن امتلاكه حصاناً عظيماً لا يُمكن الحصان آخر أن يهزمهأمر والدي بتسوية طريق بطول كيلومترين على شاطئ جميرا، وقام متنافسو الإمارات المجاورة بنصب خيمهم على الشاطئ، وخيموا هناك مع خيولهم، حيث وضعت الأعلام عند خطي البداية والنهايةوبذلنا ما في وسعنا لتزيين المشهد بإمكاناتنا القليلة، بيد أن الناس هم الذين تولوا إعداد معظم الزينة بأنفسهم وكانت أجواء الترقب مثيرة جداً. أما الحماسة التي اشتعلت قبل السباق فستعيش معي حتى أخر يوم في حياتي. وأحدثها عن السباق الذي ينتظرنا، فغداً ستكون فرصتنا لنثبت أنفسنا أمام والدي وجميع أصدقائي. ولاحظت أن الأرض تمت تسويتها بشكل جيد لكن كان هناك شق عميق عند أطرافها مثل الكتبات الرملية الصغيرة، والأفضل في هذه الحالة أن يبقى المرء في وسط الطريق. نقصت النوم من عيني، وفتحتهما وأغلقتهما أكثر من مرة وأنا أتساءل فيما إذا كانت الأحلام هي السبب في غبش الرؤية الذي أحسه لكنه الضباب على ما يبدو فقد كانت طبقة سميكة منه تغطي شاطئ جميراوكان الشيخ والمتسابقون قد جلسوا لشرب القهوة وتناول التمر ومناقشة أحوال الطقس.سحبت الكندورة" التي قصرتها وارتديتها على عجلوتوضأت وصليت. ثم سارعت إلى فرسي لأغسل ضمادتها وأطعمها قبل ذهابي لسماع الأخبارأنجزت كل شيءوركضتُ لأجلس عند قدمي والدي، وأعطاني أحد أصدقائه خيراً وقهوة. وها هو السباق على وشك أن يبدأ، فقد ارتأوا أن الضباب لن يشكل خطرا عليه ولن يحول دون إطلاقه؛ إذ يُمكنك الرؤية حتى مسافة خمسين متراً أمامك حينها أصابني التوتر وشعرت بانقباضذهبت لأحضر فرسي ولامشيها قليلاً قبل السباق، وكانت تقوم بخطوة راقصة بين الحين والآخر لكنها مشت بجانبي باتران عموماً، وكانت عضلاتها تتموج تحت غطائها الأسود. مسحت عرفها بالماء وسبلت شعره الطويلفظهر تحت اشعة الشمس أسود اللون بمسحة من الأحمر عند نهايتهكان هناك آخرون يمشون أحصنتهم أيضاً، لكن فرسي بدت وكأنها تعيقهم كما كانت تعيقتي تولى الشيخ مكتوم تدريب "العودة"، لكنه طلب من سلومة العامري قيادتهاكان يشارك دائماً في هذه السباقات لكن مستوى المجازفة اليوم كان عالياً، فقرر اختيار سلومة بسبب وزنه كان هناك الكثير من الأحصنة، لكنني كنت متيقنا أن "العودة" هي المنافس الأشد.طلبوا منا أخيراً ركوب أحصنتنا ووصلنا جميعاً نقطة البداية. ووقف حكم البداية رافعاً مسدسه فوق رأسه والكندورة تخفق بفعل الريح، فتبت نظري على إصبعه التي يضعها على الزناد محاولاً تحديد العضلات التي ستطلق الرصاصة خاطبت أم خلج بلطف، وقدرت أنها تحاول الاستجابة لكلماتي والتفاعل معها عندما لاحظت تحرك إحدى أذنيها الحائرتين جيئة وذهاباً، تم انحنيتُ إلى الأمام خلف رقبتها الكبيرة وربطت انشوطة في اللجام كي لا يرتطم بفمها عندما تندفع إلى الأمام، وفجأة، وعلت الأصوات بمحاذاة الشاطئ. لقد بدأ السباقانحبست أنفاسي عندما انطلقت أم خلج بقوة هائلة أدهشتني. فتبت نفسي على ظهرها الأملس لأنني كنت أسابق من دون سرج. وكانت الأحصنة من حولي تندفع إلى الأمام مثل موجة مد وجزر مهولة، وامتلأ الجو يصيحات الفرسان والهتافات. لم يتطلب الأمر سوى اجتياز 200 متر تقريباً ليستقر السباق على نمط معين حيث تقدم على سلومة ممتطياً "العودة"، وبدا كالشيخ في الضباب قبل أن يحتفي بعيداًكان يتوق إلى إحراز مركز متقدم منذ البدايةوها هو يجد في الضباب عطاء يحميه قررت الا أنتظر مع الآخرين، وأن أحب حصاني على اللحاق به. وعلى الرغم من أن سلومة كان يمتلك الخبرة الكافية ليعرف إمكانياتفرس الشيخ مكتوم، إلا أنني بذلت جهدي كي لا يغيب عن ناظرياستعجلت "أم خلج بقدمي، فغمرتني الفرحة وامتلأ قلبي بالفخر وأنا أرى استجابتها وإصرارها على تخطي العودة"فهل هناك أروع من أنتطلب من حصان وتراه يبذل قصارى جهده وبمحض اختياره كي لايخذلك ؟كان سلومة قد تقدّم عليّ بخمس خطوات وساعدني الضباب في تقليص المسافة بينناولكن من دون تهديد مركزه بالطريقة نفسها التي ساعده فيها على المحافظة على هذه المسافة. لا بد أنه يشعر يشيءٍ من فرسه لأن صوت الجوافر والهتافات المصاحبة لتلاطم أمواج البحر يمكن أن يبتلع أي صوت آخر من حولنافخطف نظرة إلى الوراء ليفاجا ممسكاً بزمام أم خلج، التي غدا راسها قريباً من خاصرة "العودة" وهي تلتقط أنفاسها اللاهثة المتلاحقة من فتحتي أنفها الحمراوين كلون الدم. كان لهذا المشهد وقع الصاعقة عليه كما تبدى لي، فعضضت على لساني بشدّة لأقمع ضحكة مجلجلة اجتاحتني فور أن رأيته على هذه الصورة. بيكان يُفضّل الجانب الأيمن من الطريق وعندما رأني أحاول تجاوزه، راح يميل باتجاهي دافعاً إياي نحو الرمال العميقة، فشاهدت الراية في اللحظة التي لم يعد فيها متسع من الوقت للالتفاف، ولم يكن أمامي سوى السير إلى الأمام بصعوبة على الرغم من ذلك حنيت "أم خلج لتعطيني كل ما لديها من قوةولم تبخل على بذلك أبداً، فعوضت مسافة القفزتين التي تقدم بها سلومة علي وهي تعدو بتخبط في الرمال العميقة وشعرت أن قلبي قفز خارج جسدي عندما وجدتني أحاديه كتفا يكتف، لكن "العودة" سبقتنا بخطوة واحدة خلال تمايل رؤوس الأحصنةوتبعني الشيخ حمدان في المركز الثالث. ودار أصدقاء والدي حول "أم خلج" وأثنوا عليها وأنا أمشي إلى جوارها، فحرصت على تهنئتها بدوري حتى شعرت بالخدر يصيب يديوابتسم والدي وهو يخاطبني أحسنت يا محمد أحسنت فتمنيت أن تدوم هذه اللحظة إلى الأبدوفي تلك الأمسية خلال الاحتفالات جلست أنا والشيخ مكتوم والشيخحمدان حول الناروكان رفقة كل منهما عدد من الرجال مع خيولهم. وكان من المتفق عليه أن "أم خلج أثبتت جدارتها حتى اللحظة الأخيرة. وكانوا محقين في ذلك، ولم يلمني أحد ، وكان الجميع فخورين بما أنجزته في سباقي الأول في أكون شعرتُ ببعض الضيق لافتقاري للمعرفة الكافية إلا أن هذا لم يُقلّل من شعوري بالزهو عندما قرر الشيخ حمدان إضافة فرسي إلى مجموعته من كان يتحمّل أن الشقيق الأكبر الذي اوقره سيبدي رغبته باقتناء فرس أعددتها بنفسي؟