لا أعرف ماذا فعل أصدقاء أرسطو به حتى قال كلمته المشهورة التي طالما أزعجتني كلما تذكرتها وهي: يا أصدقائي.ولست من مؤيدي الشاعر الذي خانه بعض أصدقائه فانتقم من كل الأصدقاء بهذين البيتين من الشعر:احذر عدوك مرة ** واحذر صديقك ألف مرةفلربما انقلب الصديق ** فكان أعرف بالمضرةلأن الحياة لا تستقيم لو عاش الإنسان حياته بلا أصدقاء وبلا مشاركة يتوجس شرا من الأخرين. ويخص أصدقاءه بهواجسه بحجة أنهم أعرف بالمضرة!.ولأني أيضا من المؤمنين بأن للصداقة قيمة هامة في الحياة تصبح بغيرها نوعا من الجحيم.وكثيرا ما يسألني الشباب في رسائلهم إلى بريد الجمعة هل هناك حقا صداقة؟، فأجيبهم دائما: نعم، هناك صداقة وهناك أصدقاء، وكيف تستمع بصداقتهم بلا خسائر نفسية لك أو لهم، وهي موجودة في الحياة منذ الأزل وستبقى إلى نهاية الكون وأشهر أصدقاء الزمن القديم هم الحواريون الذين التفوا حول السيد المسيح ونقلوا إلى الدنيا من بعده تعاليمه. وانتشروا في الكرة الأرضية يبشرون بما جاء به نبيهم وصديقهم. ومن أشهر أصدقاء الزمن القديم أيضا صحابة الرسول – عليه الصلاة والسلام - الذين نصروه وآمنوا بدعوته وأصبحوا من بعده حجة في أمور الدين يستفتيهم الناس. وتطلب الأمصار من الخلفاء إرسال بعضهم إليهم ليعلموهم أمور دينهم ودنياهم. وأشهر صديق في الإسلام هو أبو بكر الصديق، وقد سمى بالصديق - بتشديد الدال – لأنه صدّق صديقه وآمن بدعوته منذ فاتحه فيما كلف به لأول مرة.وعلى مر التأريخ دائما كانت هنالك صداقة وأصدقاء. ولعبت الصداقة أدوارا هامة في تاريخ البشرية، فلولا صداقة أفلاطون لأستاذه سقراط لما وصل إلى العالم شيء من فكر سقراط الذي لم يدون أفكاره ولم يكتب حرفا وإنما دونها أفلاطون في محاوراته فحفظها للتاريخ، وسيبق دائما هناك أصدقاء وهناك صداقة رغم خذلان بعض الأصدقاء لأصدقائهم. ورغم صيحة يوليوس قيصر الشهيرة وهو ينظر إلى صديقه بروتوس ويتعجب كيف انضم للمتآمرين عليه وكيف طعنه بخنجره في ظهره كالآخرين، فلقد أساء بروتوس إلى نفسه بغدره بصديقه أكثر مما أساء إلى صديقه أو إلى قيمة الصداقة، واقترن اسمه في سجل التاريخ بالغدر أكثر مما اقترن بأي شيء آخر. لأن صديقك هو مرآة نفسك غالبا وفي الحديث الشريف «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» أي أنك غالبا سوف تكون مثل خليلك في قيمه وأهدافه ونظرته للحياة. فانظر أولا من تخالل وهل تتوافق أهدافكما وقيمكما أم لا قبل أن تمنحه شرف صداقتك. ولكيلا تشكو ذات يوم من انعدام التوافق بينكما. فليس من الجائز مثلا أن يصادق المستقيم مستهتر والجاد عابثا والمتدين منحرفا. لأن الصداقة في مثل هذه الحالة لن تصبح صداقة يطمئن بها جانبك. وإنما سوف تصبح غالبا صراعا بين شخصيتين متناقضتين وأسلوبين متعارضين في الحياة.كلية لذلك يندر أن تجد - مثلا - إنسانا جاداً بين مجموعة من الأصدقاء المستهترين أو كريما بين بخلاء أو مثاليا بين ماديين. ولأن الطيور على أشكالها تقع.والعلاقات الإنسانية بصفة عامة هي علاقات أخذ وعطاء. فلا تستمر صداقة تقوم على عطاء من طرف لطرف بغير أن يكون الطرف الآخر قادرا على العطاء لرفيقه. فالصداقة المثالية والناجحة هي طريق ذو اتجاهين ذاهب وغاد. وليست أبدا طريقا ذا اتجاه واحد من المنبع إلى المصب. كعلاقة الأنهار بالبحار التي تصب بها.والإنسان يحتاج في حياته الخاصة إلى دائرة محدودة من الأصدقاء الحميمين. ومن يسعده الحظ تعطه الحياة أربعة أو خمسة أو ستة من الأصدقاء الأوفياء الذين نسميهم أصدقاء الروح، الذين يستطيع أن يخلع أمامهم قناعه وأن يبوح لهم بهواجسه وأفكاره بلا حرج، والذين يشعر بالأمان النفسي وهو في صحبتهم لذلك قيل: إن حسن اختيار الرفيق أهم أحيانا من حسن اختيار الطريق. فكل الطرق قد تؤدى إلى روما. لكن ليس كل الأصدقاء قد يوفرون لك الأمان والاطمئنان. والصداقة كالزهور النادرة تحتاج إلى رعاية خاصة لكي تزهر ولكي يفوح عطرها. ومن فنون هذه الرعاية ألا تكون مطالبك من أصدقائك كثيرة لكي تنعم بصداقتهم للأبد. لأن الصديق الذي يرهق صديقه بمطالبه النفسية والمادية يخسره سريعا. ومن فنون الصداقة أيضا أن تكون أكثر استعدادا للتسامح معه، وأكثر حرصا على عدم معاتبته على كل شيء وأي شيء.لو كنت في كل الأمور معاتبا ** صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه والعلاقات متشابكة ولكل إنسان فيها همومه ومعاناته وليس كل الأشخاص على استعداد لتحمل العبء النفسي للوم المستمر والعتاب المستمر، وأن نغفر لهم بعض إساءاتهم كيلا تتقطع حبال المودة نهائيا بيننا وبينهم.فهل ما زلت يا صديقي تسألني بعد كل ذلك: هل هناك صداقة.