إن مصطلح «العصور الوسطى» هو في ذاته حكمٌ على قيمتها. وقد كان هذا الحكم أصلًا محِطًّا من شأنها. ويمثل هذا المصطلح ما كان يَعُدُّه واضعوه فترةً امتدت ألف عام، وكانت أشبه بالوادي أو المنخفض بين قمتين شاهقتين: إحداهما تمثِّل الماضي، كما شاعت لفظة «الوسيط» التي اشتُقَّت منه وذاع بين الناس في عصر النور في القرن الثامن عشر. ولما حل القرن التاسع عشر تأكد هذا التقسيم الثلاثي إلى القديم، حتى لقد استخدمه رجال الغرب في تواريخَ أخرى مثل تاريخ الصين؛ حيث لا يكون له أي معنًى من المعاني البتة.وللتسمية التقليدية الثابتة على كل حال ميزة واضحة؛ فهي تفقد أكثرَ ما في مضمونها الأول من معنى الثناء أو الهجاء. ونحن ننظر إلى «الوسيط» اليوم على أنه يدل في التاريخ الأوروبي على وجه التقريب على ألف العام التي تمتد من عام ٥٠٠م إلى عام ١٥٠٠م. ولا تزال قرونه الأولى فيما بين عام ٥٠٠م وعام ٩٠٠م أو ١٠٠٠م تُعرف بالعصور المظلمة، وهو اصطلاح لم يستطِع حتى استعماله الدائم أن يمحو عنصر الهجاء فيه. وتُعتبر العصور الوسطى الحقيقية فترةً تمتد من شرلمان في القرن التاسع إلى كولمبس في القرن الخامس عشر، وكما أن القرن الخامس قبل الميلاد يُعتبر عادة عصر ازدهار ثقافة المدينة الحكومية اليونانية، فكذلك يُعتبر القرن الثالث عشر عادةً عصرَ ازدهار ثقافة العصور الوسطى. وأخيرًا أود أن أقول إن هذه الثقافة كانت ثقافة الجزء الغربي من الإمبراطورية الرومانية، بالإضافة إلى الامتداد الجديد الذي شمل وسط أوروبا، فقد لبث في القسطنطينية حتى عام ١٤٥٣م. غير أن تاريخه هو في الواقع تاريخ مجتمع منفصل، بل إن تأثيره الثقافي المباشر في الغرب ربما كان أضعف من تأثير الإسلام.وقد اختلف الحكم على العصور الوسطى اختلافًا كبيرًا في القرون القلائل التي أعقبت نهايتها. إن الثقافة الإغريقية الرومانية لم تُهاجم إلا منذ عهد قريب جدًّا. ولم يتصدَّ للهجوم عليها إلا أولئك الذين يزدرون التربية الكلاسيكية، في حين أن الكتَّاب والفنانين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر في ذيول العصور الوسطى بدءوا فعلًا ينظرون بعين الاحتقار إلى أسلافهم في تلك العصور. وكثير من القذف المعروف الذي وجِّه إلى ثقافة العصور الوسطى، كذلك الذي يُقال من أن فلاسفة تلك العصور كانوا ينفقون وقتهم في جدلٍ يدور حول عدد الملائكة الذين يستطيعون أن يقفوا على طرف دبوس، يرجع في أصوله إلى هذه السنوات الأولى من الأزمنة الحديثة. أما القذف الذي شاع في العصر الحديث على العصور الوسطى فقد تميَّز بعبارات كهذه: «ألف عام من غير حمام». بل إن صفة «غوطي» ذاتها التي نستخدمها اليوم بنغمة الثناء على فن العمارة في العصور الوسطى، كانت في بداية الأمر اصطلاحًا ينطوي على الازدراء،وقد هبطت سمعة العصور الوسطى إلى أدنى درجاتها في منتصف القرن الثامن عشر، ثم أُغرمت الحركة الرومانتيكية في الجيل التالي، بشعر العصور الوسطى وبما حسبوه لا معقولًا فيها. وبدأ الناس فعلًا في إعادة البناء على النمط الوسيط. ويُقال إن الدرجات الحجرية الغوطية الجديدة في إحدى الجامعات الأمريكية المعروفة قد جُوفت عمدًا كي تبدو قديمة من فعل الأجيال العديدة التي استخدمتها، كما ينبغي أن تبدو الدرجات الغوطية، وكذلك الصبية خلال الإحياء الرومانتيكي لروح العصور الوسطى مثلوا في ألعابهم روبن هود، كما أن مَن يكبرونهم زخرفوا المخطوطات وكتبوا القصص الشعرية.ثم كانت هناك في أخريات القرن التاسع عشر حركة مضادة أخمدت هذه الحماسة للعصور الوسطى، أما الطالب الأمريكي المتوسط اليوم فلا يكترث مطلقًا بالعصور الوسطى. وهو على الجملة يميل إلى الحكم عليها حكمًا غامضًا ويَصمها بالتأخر والخرافة. ولكن الأقلية من العشاق والكارهين تعبِّر عن نفسها تعبيرًا واضحًا، وكلاهما يمدنا بمشكلتنا الكبرى في هذا الفصل. وأكثرهم — وإن لم يكونوا كلهم — من الرومان الكاثوليك، أن العصور الوسطى والقرن الثالث عشر خاصة — تمثِّل قمة العمل الإنساني، وهي مجتمع وإن يكن بغير الثراء الحديث والتكنولوجيا العلمية، إلا أنه يقوم على أساس اجتماعي وخلقي متزن، وعلى عدالة اجتماعية عملية، وأسلوب مسيحي من العيش فيه أكثر من عوض عن اختفاء الوفرة المادية. وأكثرهم — وإن لم يكونوا كلهم — من الوضعيين، المؤمنين بالتقدُّم إيمانًا جازمًا، أن العصور الوسطى زمن بربري، وعصر عنف وتظاهر كاذب للقلة منهم. وكلٌّ من هاتين النظرتين يهدينا إلى عناصرَ هامة تعيننا على فهْم العصور الوسطى، وكلاهما إذا أُخذ ككل بغير تعديل بعيدٌ عن الصواب.