قال كليلة: وإن الجنون قد يكون من بعض العقل، فأبطات على قَبيلها أياماً وافتقدها جماعتها، فإنا نعمل فيما يسَّرنا الله له من الكدح والدأب على مذهب أسلافنا وعلى العِرْق الذي فينا وهو ميزان فضائلنا وعيار مصالحنا، وطاحين هذه أبداً تعمل على مذهب الزنابير فيما ليس تحته طائل ولا معه فائدة إلا الطنين يذهب في الهواء فلا ينفعنا، واللسعُ يذهب في أجسامنا فيضرنا، وهي تزعم أنها تريد الفائدة لنا ولا تنفك تعمل بزعمها ثم لا تعمل إلا ضراً، فما أحراها أن تذهب بنا جميعاً في بعض حماقاتها، فإن المصيبة الواقعة بالناس من الرجل الأحمق يقع معها عذره فيكون مصيبة أخرى، وإنا نجد في كتب الحكمة أنه متى اغتر العاقل بالأحمق فتابعه وسكن إليه واتخذه دليلاً لمراشد أموره، كان في الأحمق المأفون حماقة واحدة وفي ذلك العاقل حماقتان! وقالت: ويلك أيتها الجاهلة المغرورة بقديمك وأهل قديمك! ألا تعلمين أن طاحين عالمة هذه القرية ومعلمتها منذ كذا وكذا. لتكون لنا مملكة في الأرض ومملكة في الهواء؟ أما إنه ليس من الهلاك أن نهلك معها في سبيل التجديد، بل الهلاك والله أن نحيا معك ومع أمثالك في هذه المعيشة المملولة التي لا فنَّ فيها ولا جمال ولا متاع من متاع الطباع الجديدة العابثة الساخرة الكافرة المستهترة بالفنون ولذاتها ومناعمها، وبعد أن نكون أضعنا ساعات أطول منها في التماسك والتفتيش عنها؛ وإن أعجز العجز أن لا نكون كلما نريد ولا نريد أن نكون، ثم بالغة بنا أسمى منزلة في مصالح الدنيا، فسبيلها ما شاءت لنفسها وسبيلكن ما شاءت لكن! ما لو وُزن بمنافع الأجنحة كلها لرجح بعضه على جميعها، وإذا كنا بطيئات وكنا نعمل أبداً فما ضرر ذلك إن كنا لا نسأم أبداً، وإنما مثلنا مثل الذي قال: هيهات إن عظمة لا تشترى بذهب الدنيا! قالت: زعموا أن رجلاً فقيراً أيسر بعد الخلة الشديدة، وأقبلت عليه الدنيا بعد إدبار طويل. فكانت كالنهر مقبلاً على مصبه: إنما همته أن يندفع لا يثنيه عن ذلك شيء، فما يستقبل نعمة إلا طرقت عليه أخرى، واتخذ الدوابَّ والحاشية والموكب، فركب ذات يوم فنفرت به الدابة واعتراها ما يعتري أمثالها من الهيج والتقحم والمخاطرة، فأذرته عن ظهرها ورمت به كما ترمي بخشبة أو حديدة، فكان لا ينهض بعدها إلا مُتحاملاً ولا يخرج إلا محمولاً، وليس من البلاء أن مثلي لم يزل يحيا، فإن كل ما تراه فنعلُك خير لك منه، لأنك تنتعل على قدم صحيحة وهذا الرجل ما جاءه الغنى يجري إلا ليقعد هو فلا يمشي! وأنت تظن أنه يبتاع بذهبه كل ما أحب على أنه لا يحب إلا عَظْمة لقدمه المكسورة؛ وهيهات أن تبيعه الحياة عظمة بكل ذهب الأرض! قال كليلة: وطال الخلاف بين النمل، فإذا "طاحين" مقبلة تسعى، فقالت: ما كنتنَّ فيه بعدي؟ فذكرن لها ما تراجعن فيه القول وما كان الجدال عليه، فاتركن هذا القديم وما كنا نتعايش عليه، وهلممْنَ إلى العالم الجديد وافعلن ما آمركن به. وما يكون الجديد جديداً باسمه ولكن بمنفعته، ولا يقين إلا بعد تجربة، فأنا آخذة بظاهر العمل والحيطة، قالت الكبيرة من النمل: إنما أنت من أنصار القديم ولن تفلحي أبداً، ثم إنها نظرت لطاحين وقالت: أما قلتِ آنفاً إن هواء ذلك الإقليم ينبت الأجنحهَ! وإنْ هي لم تنبت فقد نظرت في هذا، وسنصنع كما صنع الإنسان حين لم يطر فاتخذ الطيارات، وسنحتال لبعوضة فنأسرها ونذللها تذليلة الآلة في العمل، ولدَت لنا من بعدُ طيارات كثيرة. قال: وينتهين إلى العالم الجديد فإذا. قال دمنة: ويحك فإذا ماذا؟ قال: فإذا كُرة صبي ملقاة في ركن من الدار، فلم يكن غير بعيد حتى غشَّينها من جميع جوانبها فإذا هي في رأي العين كأنها مكتوبة بالحبر. فأهوى إلى الكرة بيده ثم نظر فإذا هي سطور فوق سطور، فتهارب الباقيات يسعين إلى نجائهن في كل وجه ومَهرب، فلم ينج منهن إلا قليل ذهبن متضعضعات إلى القرية، إن كان والله إلا حذاء صبي خبيث ودوساً دوساً وحطماً حطماً فمن لم تهلك فلن تنسى أبداً أنها من الهلاك رجعت! ولقد مَحصنا الامتحانُ والابتلاء فما كان لنا من جديد مع طاحين المشؤومة إلا أن اشترينا حياة بعضنا بهلاك البقية،