إن أية محاولة لتصحيح مسار البحث في العلوم الاسلامية في العصر الحالي، يستلزم إلتفاتة قاصدة لثنائي التاريخ والمنهج ، على أساس فقدانها داخل منظومة الدرس الاجتماعي والانساني والشرعي، والمتأمل في الرصيد العلمي بالمكتبة الاسلامية يستخلص ذلك ، فكيف يتأتى تجاوز هذه النسق أثناء تعاملنا مع النوازل الطارئة؟ هذه الدراسة تتغيى تحقيق الانسجام بين أقطاب أربعة: القطبين الأوليين، ترمي التمييز بين المرحلة الأولى للدعوة الإسلامية،وأخرى عقب بروز انقسام عقدي بين مختلف الفرق الإسلامية إبان بداية الصراع العسكري ، والذي مهد له عوامل أسهمت اذكاء هذه الثقافة،والتأثير مباشرة في تفسير النص وتحقيق مناطه، نجملها في الاتي: العامل اللغوي: إن أيّ تأويل مذهبي في واقع الأمر فردي قائم أول الأمر على التأمل في النصّ الشرعي والأوضاع القائمة"، فيعمد مؤسس هذه القراءة استخلاص ثوابت مذهبه، ولئن عدّ الإمامان ابن خلدون والماوردي هذا التدافع"واقعا لا محالة، ولا بدّ من وقوعه ضرورة، لكون الأدلّة في غالبها من النّصوص وهي بلغة العرب وفي اقتضاءات ألفاظها الكثير من معانيها، فإنه يصطدم مع مقاصدِ المؤولين، الذين اتخدوا من المحاجات التأويلية الدينية، سبيلا لتطويع النص والخبر المقدّسين، ف"المعتزلة اعتبروا أن كل ما يدعم وجهة نظرهم محكما يدلّ بظاهره، وكل ما يخالف هذه الوجهة اعتبروه متشابها يجوز بل يحق لهم تأويله. ولعل قراءة في كتب القوم(خاصة التفسيرية منها)ستحيلنا لطبيعة المغالبة الكلامية لديهم، فالزمخشري مثلا، أثناء مناقشته لقضية الاختيار، لكفى بها حجة"وقال كذلك"ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة، لقال:فلا تلوموني ولا أنفسكم، فإنّ الله قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه."، وفي ما ينص على الجبر قوله تعالى{قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ}، شرع في تقرير تخطئتهم في هذا القول في الآخرة كما خطأهم في الدنيا"، وسياق الآية يصوّب الكلام المذكور، وينذر الغافلين عنه في الدنيا،العامل المذهبي السياسي: حتى مقتل الخليفة الثالث، وبموته انفجرت الخلافات السياسية، وفي إثرها تكوّنت المذاهب، وإن الشيعة إنما نشأت وتطورت نتيجة لأصل سياسي، ونحن نعلم أيضا أن الخوارج بطوائفها المتعددة إنما نشأت عن عامل سياسي، بل إنها في عهد أبي الهذيل العلاف انقلبت فرقة سياسية سرّية، ثم تمّ لها الانتصار حين استولت على السلطة لمدّة طويلة من الزمان، ويفسّر الإرجاء نفس التفسير، بل قيل إن الفرق الكلامية الإسلامية المشّائيةنفسها قد جلبت إلى العالم الإسلامي لتدعيم طراز من السياسة، والفارابي مثال صادق على هذا، وأغلب ما حدث في تاريخ المسلمين من غزوات أو ثورات حيوية فكرية إنما انقلبت إلى ثورات سياسية:الكيسانية وخليفتها القرامطة، الزيدية وخليفتها دول الزيود في المغرب وفارس واليمن، فإبراز الجوانب التي تمثل موقف من تقدّم من التأويل وإعمالهم له بتوجيهم للدلالة طبقا لاتجاهاتهم الخاصة، مذهبية كانت أم سياسية، ولم يقتصر التأويل عندهم على ما يقبل التأويل من النصوص–وهو المتشابه-فحسب، وإنما ذهبوا إلى المحكم من النصوص وأولوها ما دام يخالف مذهبهم، أو يوافق مذهبا آخر". من المسائل التي ميزت اجتهاد المؤول إنشاؤه للمناسبات التي تشرع لأسس نظرية-سياسية-، مثال ذلك ما ورد في تفسير{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}، قال فيها الرضى-من أئمة الشيعة-"هم الأئمة من آل محمدﷺأن يؤدي الإمام الأمانة من بعده لا يخصّ به غيره، ولا يزويها عنه".ومنه قول أبي جعفر رضي الله عنه في{ويجعل لكم نورا تمشون به}يعني إماما يأتمنون به"، وهذا الذي مَثلنا به التفسير الشيعي نجد له ما يناظره في التفسير السّني، حيث يعتمد الطبري مفهوما مخالفا للمنقول، ويستند إلى رجال مختلفين وينتهج إليه طرقا متميزة هي من أبرز ما أولاه الطبري اهتمامه في تفسيره حيث يكتسب مصطلح "السلف"أو"الإجماع"دلالة خاصة ويحمل من التأويل ما يوافق مسلّمات المذهب السنّي" كما تجسّد هذا العامل بصورة صادقة حين سوى علي رضي الله عنه بين أغنياء الصحابة وفقراء المسلمين، فدعا الأمرالزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله إلى الانتفاضة ضد علي وإثارة الحرب الأليمة ضده، ثم يقال، إن أساس قيام الكيسانية، وهي حركة كبرى في تاريخ الإسلام تفرع عنها ثورة القرامطة، وثورة الننج إنما كانت بسبب تسوية المختار بن عبيد بين العرب والموالي في العطاء، وفي بعض النماذج التي وصلتنا عن نشأة المعتزلة القديمة أن أساس قيام المعتزلة كان عاملا إقتصاديا هو عدم رعاية السلطان لأموال بيت المال، وعدم توزيعها بين المسلمين بالتساوي، ونعلل نشأة القدرية نفس التعليل فعبارة معبد الجهني المشهورة"إن هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ويأخذون أموالهم،ويقولون إنما تجري أعمالنا على قدر الله، وهي التي نشأت عنها المعتزلة فيما بعد، لكن من الخطأ انفرد عامل من هذه العوامل دون آخرى.والثانية، تهدف لبيان أثر توظيف التأويل العقدي في الممارسة والسلوك السياسيين لكافة الفرق الكلامية أفرادا ومؤسسات. فماذا عن القطبيين الأخريين الذين يندرجان ضمن استراتيجية التوظيف لمركب التأويل الكلامي الفقهي، ضمن السياق البيداغوجي التصوري ثم الديداكتيكي التطبيقي(بمعنى كيف لنا أن نرتقي بالدرس الكلامي الفقهي-كمركب- من مستوى التنظير الجزئي للنوازل الفقهية الطارئة إلى توظيف إجرائي تداخلي وتكاملي للمعرفة الكلامية والفقهية بما يسعف الطالب مواكبة الواقع وتحقيق مناطاته الخاصة؟)، دون تقصيد للنص،فلننتقل إذن لتحليل ما تقدّم وتفصيل هذه الاقطاب بشكل مفصل ومركز:بعد تفصيل القول في المقدمة الأولى، ننتقل للمقدمة الثانية وفيها بيان(العلاقات البينية العلمية والوظيفية بين علمي الكلام والسياسة، فهما و ممارسة).إن المتأمل في مجمل تاريخ المسلمين-خصوصا بعد أحداث الفتنة الكبرى-ليقرُّ جازما أن العقيدة الناشئة شكلت مصدرا للانقسام السّياسي فالعقدي، وإصرارهم على هجرة أتباعهم إليهم، ثم تكفير من خالفهمأو من قعد عن القتال من أنصارهم، وتجنيد الأنصار والأعوان-. كذلك الشيعة:طوروا فلسفتهم العقدية بما يحقق أغراضهم السياسية، من خلال نموذجين متعاكسين، فتفرّق أهل السنّة إلى(ماتريدية، وحنابلة، وقبلهما في الوجود والتأثير، المعتزلة التي تجسّدت عمليا وممارسةٌ سياسةٌ إبان حكم المأمون،إسماعيلية،واثنا عشرية، وموسوية وزيدية. لقد أدّى التوطيف السياسي للعقيدة تاريخيا إلى تبرير الخضوع للحاكم الجائر والفاسد وإطاعته منعا للشغب والاقتتال على السلطة، وإضفاء الشرعية على الممارسات الفعلية للقيادة السياسية، ونصوص الماوردي وابن جماعة من بعده في ولاية العهد والاستيلاء، شاهدة على ذلك. ومع ما شابه المرحلة السابقة من انحراف سياسي بقيت الأمة في موقع القيادة والقوّة على مستوى العالم،ما عدا خطورة الطرح الفلسفي اليوناني النابع من اجتهاداتهم، ثم استغلالهم السيء لموضوع القضاء والقدر.وَوَقْفِ نُموّه وإيقافه عند مرحلته الجنينية، فماذا لو تطوّر الوعي بمفهوم القدر وتمّ صرفه إلى عالم السّنن والإمكانات والطبائع الفردية والمجتمعية المنضبطة والمستقرة؟، ماذا لو تمّ اكتشاف سنن وطبائع الاستبداد منذ وقت مبكر؟ألم يكن في ذلك ما يسمح بالتعرف إلى مقوماته وركائزه ومحركاته وعوامل انبثاقه وضعفه؟ وحينئذ ألم يكن من الممكن اكتشاف العلاقة الأكيدة بين الحكم العائلي وشبه العائلي وبين الاستبداد؟ثم ألا يؤدي ذلك إلى الدفع باتجاه البحث عن الحلول؟واكتشاف فكرة ولاية الأمة وإعادة فهم قيمة الشورى، خصوصا أن الوضع الذي كان سائدا في عهد الخلفاء الراشدين يخدُم ويعزِّز فُرص الوصول إلى هذا الاكتشاف، هذه مجرد عينة للمسار الذي كان يمكن أن يتخذه الانطلاق الرشيد نحو حسن فهم موضوع العقائد السياسية الإسلامية، باعتبارها مدخلا جوهريا للصراع السياسي، والتي يمكن اختزالها في إثنيين:أولا: إضفاء المشروعية التامّة على حكم المتغلب والاستقواء به والارتهان له(ومنه الحكم العائلي)، هذا الحكم الذي هو أول وأبرز انحراف في تاريخ المسلمين تمّ إدخاله من بوابة الجهاد، ليس ضد غير المسلمين،ثانيا:الصعود ببدع التوسل والإستغاثة إلى درجة الشرك الأكبر المخرج من الملّة والمبيح للدم وللمال، كما نظّر له(محمد بن عبد الواهاب)، حيث وضع أدوات التكفير بأيدي العوام من المسلمين في مواجهة بعضهم، وهو موضوع لا يكاد يوجد لصوره حدود. ثم التحصين السياسي والثقافي للدعوة الناشئة-ابتداء من في مطلع ق12-، يقول بشأنها حسين بن غنام في وصفه الأحوال عند بداية دعوة الشيخ، وفي عهد الدولة العثمانية"كان أكثر المسلمين قد ارتكسوا في الشرك، وارتدوا إلى الجاهلية، وانطفأ في نفوسهم نور الهدى،"، ويصف خضوع أهل القصيم للأمير عبد العزيز بن محمد بن سعود في عام(1179ه)"وفد عليه أكثر أهل القصيم فدخلوا في الإسلام وخرجوا ممّا كانوا فيه من عبادة الاوثان، فأخذ عبد العزيز عليهم العهد ووضع عندهم معلمين يعلمونهم التوحيد والشرائع والأحكام". كما هو واضح فإن الدخول تحت سلطة الدولة المتبنية للدعوة هو دخول في الإسلام، والخروج عنها هو خروج عن الإسلام والاتداد، وهنا تطبق أحكام الفيء والغنائم، كما نراه يصف أتباع دعوته بالمسلمين وخصومهم بالكفار والمرتدين، ويعتبر خضوع القرى والمدن للسلطة المتبنية للدعوة دخولا في الدين والثورة عليهم ردة عن الإسلام". ولعل المستقرئ لرسائل الشيخ المتأخرة لن يجد أثرا للمجتمع الإسلامي العام، بل لن يجد حتى للمجتمع المسلم داخل حدود الجزيرة العربية أثر. فكل التعبيرات والمصطلحات المستخدمة هي تعبيرات عن حالة التوحيد عند الشيخ وأتباعه وحالة الشرك عند المخالفين، والخصوم المعادين والمتوقفين الذي لا يُكفِّرون المشركين والذين يَشكّون في كفرهم، وهنا يتّحد الشيخ مع الخوارج في منهج التغيير، من خلال تكفير المخالفين وتطبيق أحكام الجهاد عليهم وعدم إقامة أي وزن للدولة القائمة والمجتمع الإسلامي الذي كان في معظم أجزائه خاضعا لحكم الدولة العثمانية، ولم يكن أهلها أقل إيمانا من بقية المسلمين. نقترح آلية تصورية تتغيى إعادة الاعتبار والتأثير والريادة للأداء الفقهي والكلامي، ويمكننا حصر الوظائف التي ينبغي أن يعنى بها الدرس في صورته المثلى في الآتي:الأولى:وظيفة علمية، عن طريق إكساب الطالب معرفة واسعة بالأحكام الشرعية واجتهادات الفقهاء وأرباب علم الكلام في مختلف الأبواب والمباحث.الثانية: وظيفة عملية، تراعي الاجرائية في نقل المعارف يقول بشأنها الشاطبي"كل مسألة لا ينبني عليها عمل؛ فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي"، ومراعاة الطبيعة الخاصة للعلم المحصل ف"العلوم الّتي هي مقاصد لا حرج في توسعة الكلام فيها وتفريع المسائل واستكشاف الأدلّة والأنظار فإنّ ذلك يزيد طالبها تمكّنا في ملكته وإيضاحا لمعانيها المقصودة، ثم المقاصد المعتبرة من تحصيلها،فإن العلوم مرتبة ترتيباً ضرورياً وبعضها طريق إلى بعض والموفق من راعى ذلك الترتيب والتدريج"، وأشار إليه أحمد بدر تحت عنوان"وحدة العلوم والمعارف الإنسانية"، سواء في التصنيف العربي الإسلامي، أوفي أصل المنهج، وفق منطوق كلام د. عائشة عبد الرحمن". وفي مجال التدريس تعيينا"، تعكس الترابط العضوي والمنهجي والمنطقي بين وحدات العلم الشرعي". وأقصد بذللك أسلوب حل المشكلات وإنجاز المهمات، ويكون من الضروري تنظيم تدرج المحتويات حول كفاية معينة ينظر إليها على أنها إجابات عن وضعيات تتألف منها المواد الدراسية". وهذا شأن ديداكتيكي بامتياز. إن هذا الأسلوب سيجعل الطالب في مواجهة إشكال معرفي معين، لا ينبغي حلّه بالرجوع المباشر لمصادر المعرفة، ولكن بتوفير أدوات البحث له والتدرج معه في الكشف عن مناهج الاستدلال، وفي إعمال قواعد أصول الفقه في الوصول إلى الحكم الشرعي، ومن المفيد جدّا أن يتولى المدرس التمهيد للدروس، ببيان ما فيها من المعاني العقدية والأخلاقية والمقصدية من أجل توسيع آفاق الدراسة".بقي لنا في هذا القطب الإستثماري لآلية التأويل الكلامي الفقهي مراعاة عنصرين متداخلين، الأول تعكسه الخصوصية المرجعية المنتمية لدائرة معرفية معينة نَسِمه(النموذج الجزئي)، إن هذا النموذج إذا ما أتيح له في إطار"ميثاق أممي"حيث الأمة الواعية بمضامينه، والمختارة لبنوده، والمختارة لمن يمثلها من هيئات سياسية، ورابطات شرعية، تنظر فيما يعن لها من وقائع طارئة، وتحقيقا لهذا الانسجام المطلوب نرى ضرورة مراعاة قواعد أربعة نرى أن إعادة نظمها، يكون معيارا مؤسسا وموجها لسلوكها في التغيير السياسي، وشورية، وحرية، وضمير حي أولا وأخيرًا"، خير مدخل يعتدّ به لإعادة التنشئة وتنظيم الأمة تأسيسا، والقائمين عليها أصالة".*مراعاة الخلاف في منهج استنباط المبادئ والقواعد من مصادرها: يعتبر هذا الأصل معتبرا لدى جميع المذاهب الفقهية الإسلامية، إلا أنهم راعوه إذا لم يؤد لارتكاب مكروه مذهبهم".* تمييز العقدي عن السياسي: إن من أولويات إعادة صياغة فلسلفة سياسية، تجنُّب الانتقاء العقدي بناء على هوى مبتدع، وبين الجبر السياسي، مع أن مذهبها العقدي يمنعُ ذلك ويحضره". إن التنزيل الصحيح لهذا المشروع، لن يكون له أثر البتة، إذ لم يكن محصَّنا أصَالة بالصدق مع الله جل في علاه ، ومع الأمّة تبعا،مستجدات في التولية والخلع والرقابة والمحاسبة والانتخاب. حقوق، انتخاب، احتجاج،. اللهم إذا فتح العزيز القدير عليه، كما فتح على أنبياءه وأولياءه الصالحين. إنها دعوة لتجميع التيارات، والمجامع والأحزاب.على اختلاف تصوراتها،