يُظهر القرن العشرون فشل الأنظمة الشمولية، ونهاية الاستعمار التقليدي، وموجة من الاستقلالات أدت لتشكيل "عالم ثالث" كبير. لكنّ تصورات المدرسة التنموية، القائمة على تقارب الدول نحو نموذج ديمقراطي موحد، انهارت. فلم تتطور الدول في آسيا وأفريقيا وفق النماذج المتوقعة، بل ظهرت تنوعات واختلافات كبيرة. وتكشف البحوث التجريبية تناقضات في العولمة وتأثيراتها غير المتوقعة على التنمية. تُبنى العولمة على نظام دولي موحد، لكنها في الواقع تُظهر حالات تنافر وعدم اتساق. فاستيراد النماذج الغربية من قبل مجتمعات الجنوب، رغم رفضها المعلن، شائع، ما يُشكل حلقة مفرغة مرتبطة بعلاقات القوى ومزايا النخب. وتواجه المجتمعات غير الغربية معضلة التكيف مقابل الابتكار، حيث يمثل الأول عقلانية قصيرة المدى، والثاني تفكيراً طويل الأمد. ويحاول السياسيون والباحثون التوفيق بينهما، لكنّ هذه التوليفة هشة، إذ يُصبح الابتكار شعار معارضة أكثر منه أداة للخلق. وتُعمق هذه المعارضة الهوة بين الحاكمين والمحكومين، وتعيق الكونية. تتلازم العولمة مع الإعلاء من شأن التفرد، رغم سعيها لوحدة النظام الدولي عبر تقنيات الاتصال والترابط. فالخصوصيات تُقَلّص لصالح نظام مشترك، لكن التفرد يُقاوم عبر موارد خارج المركز، وشكلاً من أشكال المقاومة. وتعيد العولمة بناء فكرة التبعية، حيث توجد بنية سلطة معقدة غير اقتصادية بحتة، ولا تُختزل بلعبة قوى أو مؤامرة، بل تُنشئ شبكات ومنافع متنوعة. وتُنتج العولمة نزاعاتها الخاصة وخطوط انقسامها، وتُضفي على توتراتها صبغة ثقافية. وتُحقق التبعية الثقافية إنجازات متناقضة، وهي طوباوية، وعرضة للنقد، لكنها باقية، وتسيطر على التفاعلات الدولية. وتُظهر هذه التناقضات أن التبعية الثقافية تمتلك قدرة سياسية حاسمة في عمل النظام الدولي، وفي تقدم المجتمعات التابعة، سواء في إنجازاتها أو إخفاقاتها. وتُنتج هذه العالمية المتناقضة مسارات جديدة للتاريخ، وربما ابتكارات في المجتمعات غير الغربية وداخل النظام الدولي نفسه.