وقد لاحظ في أثناء عمله أن الحرائق تشتعل حين يفقد الناس حذرهم ويقرؤون كلمة (فارغ) مكتوبة على صهاريج البترول فيلقون بأعقاب السجائر حولهم ناسين أن كلمة (فارغ) لا تعني أن الأبخرة الباقية في الصهاريج لم تعد قابلة للاشتعال ، وله إلمام كبير بلغات الهنود في أمريكا ، وكان من ألمع تلاميذ (سابير) وقد عمق فكرته السابقة عن علاقة اللغة بالثقافة ، وتمخضت دراساته عن فرض ينسب إليه في جميع أنحاء العالم. وهذه الفرضية - كما يقول (هدسن) - مزيج من النسبية المتطرفة والحتمية المتطرفة. وليس ثمة فكر دون لغة . وإذا ما جمعنا بين هذين الرأيين فسوف نكتشف أنه لا توجد قيود على التباين القائم بين الناس في أسلوب تفكيرهم وبخاصة في المفاهيم التي يكونونها ، كما أنه كان يغير نظرته تغييرا جذريا في القضايا المرتبطة بها من وقت لآخر وهذه بعض الملاحظات التي توضح هذه الفرضية : إذا سألك سائل ما عدد الوان قوس قزح ، ولكنها ليست كذلك عند من يتكلم اللغة الروسية حيث ينقسم اللون الأزرق إلى لونين ، لكل اسم خاص ، يقارب قولنا : أزرق فاتح وأزرق غامق ، والأخرى تشير إلى ما يسمي بالألوان الباردة (الأزرق والبنفسجي والأخضر). ١٥ ومن ثم تختلف العلامات المميزة؛ فإن عيني أي إنسان في هذا العالم تبصر نفس الألوان ، أي تؤكد علي أقسام متميزة . *وإذا سألك سائل ما الكلمة التي تعبر عن الثلج الذي يسقط في الصباح فقد تقول : (ثلج) ، ولكنها تعني أن اللغة العربية لا تتضمن كلمة واحدة للإشارة إلى هذا المعنى. ولكن إذا سألت رجلا من الإسكيمو فسوف يذكر لك عشرات من الكلمات المفردة تدل على الثلج في كل حالة من حالاته التي يمكن أن يتخيلها الفرد : الثلج على الأرض ، الثلج في الهواء تذروه الرياح . الخ . والفعل يدل على حدث يقع في زمن. وهذا صحيح عند من يتكلم العربية ، وليس العالم المحيط بنا ، ولكن لماذا نقول إن الكلمة (هجوم) اسم وليست فعلا ، ولماذا نعد الكلمات (برق) و (موجة) و (نبض) أسماء تدل على أشياء ولا نعدها أفعالا تدل على أحداث ؟ أن الكلمات السابقة أفعال لا أسماء ، وفي هذه اللغة التي تبدو لنا غريبة يعبر مثلا عن كلمة (النار) بكلمة تعني ما تعنيه حين نقول تشتعل النار . واللغات المختلفة قد تتضمن مفاهيم زمانية ومكانية غير متماثلة فقد يبدو لنا مثلا أن مفهوم الفعل الماضي والمضارع والمستقبل هي المفاهيم الوحيدة الممكنة ، بيد أن هنود (الهوبي) لا يعرفون الأزمنة ، فلديهم ما يمكن أن يطلق عليه : المزاج التوكيدي مثل عبارة (أؤكد وصوله) ، وهي تشير إلى كل الأحداث التي تعبير عنها بالماضي أو الحاضر بمعنى : وصل أو يصل ، 16 بل إن المفاهيم العامة مثل الزمان والمكان اتخذت أسماء مختلفة والبحوث الحديثة في الاكتساب اللغوي تؤكد أن الطفل لا يولد مزودا بلغة معينة بل يخرج إلى الوجود في مجتمع يستخدم لغة خاصة عليه أن يكتسبها وينميها في البيت وفي المدرسة أو في غير ذلك من المؤسسات الاجتماعية ، ومهما كان العالم الذي حوله غنيا ومتنوعا فإنه لن يرى ويدرك إلا تلك الظواهر التي لها أسماء في اللغة ، إن لغة الأم تحلل لنا العالم وفق طريقتها الخاصة وتفرض علينا جميعا هذا الطراز من التحليل وإدراك العالم أي تفصيله وتصنيفه إذا شئت) . إنه هو نفسه الذي يشكل الأفكار. إن صياغة الأفكار ليست عملية مستقلة عقلانية في الوعي الماضي ، بل هي على العكس من ذلك. إننا نستقبل العالم في صورة دفقات من انطباعات مشوشة ينظمها - إلى حد كبير - النظام اللغوي القائم في عقولنا . وهذا الاتفاق ينعقد من خلال الجماعة اللغوية ، لأننا لا نستطيع الكلام البتة دون أن نكون مشاركين في تنظيم وتصنيف الظواهر وفقا له . أو يمكن تحديدها وتقييمها بطريقة أو بأخرى . وفي التعليق على هذا النص يؤكد ( هدسن) ما سبق أن أعلنه في بداية الحديث عن فرضية (ورف) أنه صورة ممثلة للنسبية المتطرفة والحتمية المتطرفة ، ثم يعود إلى نفس الفكرة ويضيف إليها قوله - إلى حد كبير – وذلك من شأنه أن يترك لنا فرصة باحتمال وجود فكر دون لغة . ١٧ هذا وقد انتقد كثير من الباحثين فرضية (ورف) ونوجز هنا أهم اعتراضاتهم. تؤكد بعض الدراسات التجريبية وجود مرحلة من حياة الطفل يتحقق فيها التفكير دون كلام . وفي حوالي السنتين من عمره يأخذ منحنيا التفكير والكلام في الاتصال لكي يحققـا شكلا جديدا من السلوك ، في هذه الحقبة يكتشف الطفل أن لكل شيء اسما ، ومن ثم يصير التفكير كلاميا والكلام عقلانيا). وقد استنتج بعض علماء النفس من ذلك أن إدراك الطفل للعالم المحيط به سابق للكلام ، وصياغة الأفكار عملية مستقلة عن اللغة - بعامة – نحن نصنف العالم وفقــا المعايير نضعها الطبيعة وتحددها اتجاهاتنا المعرفية والاتصالية لا حسب لغتنا ، ويمكن للفرد أن بغير من معاني الوحدات اللغوية حسب حاجته بالتوسع المجازي. لديها أنظمة دلالية خاصة (أي لديها جهاز مصطلحي ذو مفاهيم علمية مميزة). إنهما سيكونان في بيئة جديدة تماما ، ذلك لأن القمر يختلف عن الأرض ، سيعود رجلا الفضاء ثانية إلى الأرض ويقصان انطباعاتهما عن القمر. لنا أن نتوقع حسب نظرة (ورف) أن نسمع وصفين متباينين تمام التباين ، لأن كلا منهما يتكلم لغة تختلف عن لغة الآخر . ويؤيد (كندر اتوف) هذا الاعتراض بقوله إن الرحالة العرب اعتادوا منذ ألف عام خلت أن يزوروا أراضي الشمال ، وكانت عادات وتقاليد وطبيعة أهل الشمال غريبة في نظر الرحالة العرب تماما ، واللغة العربية تختلف اختلافا كاملا وبينا عن لغات أهل الشمال ، ولكننا في حياتنا العادية نكتفي ببضع صفات قليلة لوصف احتياجاتنا اليومية. وفي العربية الفاظ كثيرة عن الإبل تتصل بكل أحوالها ، وابن لبون ، والحق ، والثني ، والسديس والبازع ، والمخلف. إن وجود هذه الكلمات كلها في اللغة العربية يدل على اهتمام العربي بهذا المجال وعنايته بكل التفصيلات التي تتصل به. وقد ذكرنا من قبل أن لغة الأسكيمو تفيض بعشرات من الألفاظ تشير إلى الثلج في أحواله المختلفة ، فمفردات اللغة إنما تعكس الحاجات المختلفة والاهتمامات الخاصة بالشعب الذي يستخدمها. لقد كان (ورف) على حق حين قال إن اللغة تؤثر على تفكيرنا ومن ثم تؤثر في سلوكنا ونذكر هنا بالحرائق التي تتسبب عن كتابة كلمة فارغ على صهاريج البترول) ولكن (ورف) نسي حقيقة أكثر أهمية ، بالحياة إن الواقع الموضوعي والحياة هما في نهاية الأمر اللذان يلعبان دورا أساسيا وليست اللغة . إن الشيء الهام ليس هو التباين بين اللغات المختلفة ، وإنما هو التباين بين لغة قوم على علم ودراية بمجال معين وبين لغة قوم يجهلون حقائق الأمور. إن اللغة - حقا - تؤثر في التفكير والسلوك ، ولكنها - كما يقول كندراتوف – تؤثر على تكنيك (أو أسلوب ) التفكير دون جوهره ،