كنت يومئذ صغيراً لا أفقه شيئاً مما كان يجري في الخفاء، ولكني كنت أجد أبي - رحمه الله - يضطرب ويصفر لونه كلما عدت من المدرسة فتلوت عليه ما حفظت من (الكتاب المقدس)، ثم يتركني ويمضي إلى غرفته التي كانت في أقصى الدار، والتي لم يكن يأذن لأحد بالدنو من بابها، فيلبث فيها ساعات طويلة، ثم يخرج منها محمر العينين كأنه بكى بكاء طويلاً، ويبقى أياماً ينظر إلي بلهفة وحزن، ويحرك شفتيه فعل من يهم بالكلام، فإذا وقفت مصغياً إليه ولاني ظهره وانصرف عني من غير أن يقول شيئاً.وكنت أجد أمي تشيعني - كلما ذهبت إلى المدرسة - حزينة دامعة العين، ثم لا تشبع مني فتدعوني فتقبلني مرة ثانية، فأحس - نهاري كله - بحرارة دموعها على خدي، فأعجب من بكائها ولا أعرف له سبباً، ثم إذا عدت من المدرسة استقبلتني بلهفة واشتياق كأني كنت غائباً عنها عشرة أعوام. وكنت أرى والدي يبتعدان عني ويتكلمان همساً بلغة غير اللغة الإسبانية لا أعرفها ولا أفهمها، فإذا دنوت منهما قطعا الحديث وحوّلاه، حتى إني لأحسب أني لست ابنهما وأني لقيط جاءا به من الطريق، فآوي إلى ركن في الدار منعزل،