وهناك بعيداً بعيداً تنتصب على الرمال البيوت السعفية والطينية – وآخر أطلالها هذا الجدار – تختزن صدى البكاء والعويل على القتلى والجرحى بتلك النيران، فالشهادة مطلب في مواجهة الغريب الذي جاء ينهب ويسرق ابتسامة تأبى أن تفارق الأرض الرائحتها عطاء دائم، وفي تلك اللحظة وصلت لأهنأ بالراحة بعد سهر الليالي في الحفر الرطبة. أبدت الكلاب استياءها للأعمال القذرة وهي تجرى عبر الأزقة باتجاه ذلك الوحش. خطوت بسرعة في الزقاق الرطب المؤدي إلى المنزل السعفي ذي الحضن الدافئ والابتسامة البريئة. أسرعت عندما مرّ أحد القوم وهو يردد (لا حول ولا قوة إلا بالله). وقفت عندئذ ولم أجرؤ على السؤال فقد كان الجواب ماثلاً أمامي. تسابقت أيدي القوم تربت على كتفي وتواسيني (أحسن الله عزاك يابو عبدالله)، انفجر باكياً وهو يردد (أحسن الله عزاك فيهم). اغرورقت عيناي واحتضنته بكل قوتي وضغطت بجسمه على صدري. تقدم أحدهم: كنا نطفئ حريقاً. وإذا بنا نشاهد تصاعد اللهب قريباً من دارك. حرارة المكان تلفحني وتزيد دمي غلياناً، جثوت على ركبتي والعرق ينضح من جسدي بغزارة. نزعت الغطاء ببطء وإذا برائحة اللحم المحترق تخنقني. – شموا رائحته. كيف أقول لهم إن هذه القبضة من الرماد هي الحياة التي خنقت، انشغلنا في إعداد الجثث لدفنها في الصباح الباكر بعد صلاة الغائب، تداعت في مخيلتي صورة الأم والأولاد والحكايات الحلوة على (المنامة) المزروعة وسط ذلك المنزل. افترشت قطعة قماش هندية كنت أضعها على رأسي (غترة). حيث يرسو شاحوف مبارك الذي اتخذ منه مسكناً ووسيلة لرزقه. ركضت عبر الظلمة فوق الأحجار وبقايا عظام الأسماك. وثبت على (الفنّة) ونزلت في (الخن) وأخذت أبحث عن سكين بين أكوام (الشبا). تراجع إلى الخلف خائفاً. تناولت طرف القماش الذي كان يلتحف به مبارك ومسحت السكين من بقايا الأسماك والأعشاب البحرية. أترى ذلك الوحش الذي انهال علينا بنيرانه المحرقة. – وكيف يا بو عبدالله وهو يدمر كل شيء وها قد مرت عشرة أيام ولم يبق من البلد إلا أطلالها. – ما عليك يا مبارك الآن إلا أن توصلني إلى ذلك الوحش. – ولكن يا بو عبدالله…! استمر في التجديف والزم الصمت حتى نصل. بدأنا نضرب تلك المجاديف بخفة وتناسق والشاحوف يمخر عباب المياه بانسياب. – لقد أمرتني بأن أصمت. – يا رجل أكاد أختنق. – لم تخبرني يا بو عبدالله عما أنت مقدم عليه؟ – اسمع يا مبارك بعد أن يناموا سأسبح حتى ذلك الوحش. – يقولون إنهم أقوياء وأبدانهم حمراء ومكتملو البنية وإنهم يملكون المعرفة بكل شيء، – وماذا أفعل بعد ذلك. – تدين لي به. سرت فـيَّ رعشة عندما لامست رجلاي هيكله الحديدي البارد. تسلقت بواسطة حبل المرساة وضربات قلبي تزداد قوة، وبعد جهد مشوب بالحذر وضعت قدميّ على السطح. وهو يتحرك في الظلام جيئة وذهاباً في خطوات منسقة ووقع أقدامه يثير فـيَّ الرعب. تقدمت إلى (الغمارة) وإذا بي أشاهد حارساً على بابها وهو أمر لم أكن أتوقعه. تسللت إليه بحذر وبادرته بضربة قوية بالسكين في صدره. دخلت بعدها الغرفة وإذا بجسد رجل ضخم البنية طويل القامة، صور المآسي والحرائق والأطفال اليتامى والمراجيح التي شنقت عليها الأغاني. وحبست أنفاسه بمخدة قطنية منعاً للضوضاء والصراخ. شعر الحارس بالأمر وشاهدته يقترب من خلال الأفق البعيد. قفزت إلى البحر غائصاً في الأعماق وهواجس الخوف والارتباك تملك مني النواصي. غير أنني ظللت أصارع الأمواج وألم الجرح حتى ارتطمت بالشاطئ. وإذا بمبارك واقف والابتسامة تملأ ثغره ودموعه الساخنة تنثال على وجهه. وتنطق لكل الأجيال أن هذا الجدار يعرف حكاية أبو عبدالله . وتحته أيضاً قال أبو عبدالله للرجال (ألم أقل لكم إن الوحش لا بد أن يرحل). وأنا الآن أناهز التسعين عاماً ولا يحلو لي ظل للراحة إلا. والقوم اليوم يسخرون مني ويطلقون عليّ «مبارك عاشق الجدار القديم» ولا يدركون أنه على هذا الجدار.