أن الكلام قسمان : خبر وإنشاء . فالخبر : ما يحتمل الصدق والكذب لذاته أي بقطع النظر عن الذي ينطق بالخبر سواء أكان مقطوعاً بصدقه أو كذبه، وبقطع النظر عن الواقع : كالسماء فوقنا والأرض تحتنا، ولكننا نعتبرها خبراً بالنظر إلى ذات الكلام نفسه دون اعتبار لشيء آخر. إذا احتمل الصدق والكذب أمكن أن يقال لقائله إنه صادق فيه أو كاذب، فهذا كلام يحتمل الصدق والكذب، فالقطع بصدق هذا القول، ولا يصح أن يقال لقائله إنه صادق في قوله أو كاذب كقولك : أنصت إلى الدرس، ولا تتدخل فيما لا يعنيك فالأمر بالإنصات والنهي عن التدخل في غير ما يعنيك، والخبر لا بد له من مسند إليه ومسند ، وإسناد مثل: محمد مسافر فمحمد مسند إليه، ومسافر مسند ونسبة السفر إلى محمد هي الإسناد، فهذه ثلاثة أبواب . والمسند قد يكون فعلاً، فتأتي له بمتعلقات مثل محمد يأكل فإذا وضعنا معه ما يتعلق به كالمفعول قلنا : محمد يأكل طعامه، متعلقات الفعل هي الباب الرابع . فالثانية إما أن تكون معطوفة على الجملة الأولى، مثال الفصل قوله تعالى : أمدَّكُم بما تعلمون، أمدكم بأنعام وبنين) (١). وإما أن يكون الكلام زائداً لفائدة، أغراض الخبر يقصد المتكلم من إلقاء الخبر إما : إفادة المخاطب الخبر كأن تقول لزميلك الذي يترقب ظهور النتيجة ظهرت النتيجة وللنائم طلعت الشمس، وهذا يسمى فائدة الخبر. وإما أن يكون المخاطب عالماً بالخبر محيطاً به، ولكن المتكلم يلقي عليه الخبر، ليحيطه علماً بأنه هو نفسه يعرف هذا الخبر، فالمخاطب في هذه الحالة لم يعرف خبراً كان يجهله من قبل، وهذا هو قصد المتكلم وغايته، ولكن الشيء الجديد في هذا أن السيدة خديجة علمته أنها تعرف عنه هذا الخلق. طلبتهم على الأمواه حتى تخوف أن تفتشه السحاب واستأصل شأفته، وهذا يسمى لازم الفائدة . فإلقاء الخبر إذن يكون لغرضين : والضعف مثل قوله تعالى : (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي ) (٢) . والمدح كقول النابغة : فإنك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب والذم كقول المتنبي يهجو كافوراً : وتعجبني رجلاك في النعل إنني رأيتك ذا نعل إذا كنت حافياً أضرب الخبر يلقى الخبر بحسب حالات المخاطب : وليس متردداً فيه، ولا منكراً له، ألقى إليه الكلام دون تأكيد؛ لأن الكلام يتمكن بسهولة إذا كقوله تعالى : ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ )(1). وقوله : المالُ والبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) . هذه الأمثلة وما شابهها ليس فيها تأكيد؛ لأنها ليست في حاجة إلى التأكيد، وأن المال والبنون زينة الحياة الدنيا ، وأن سليط اللسان من شرار الناس، وهكذا. ٢ - وأحياناً يكون المخاطب شاكاً في الحكم متردداً في قبوله، فيحسن عندئذ أن نؤكد له الكلام بمؤكد واحد لنزيل منه الشك، ويتمكن الخبر من نفسه، ويسمى هذا الضرب : طلبياً. مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القربى ) وكقولهم في المثل : إن البلاء موكل بالمنطق». - وأحياناً يكون المخاطب منكراً للخبر الذي سيلقى إليه، بل ربما كان معتقداً عكسه، عندئذ ينبغي أن يكون إلقاء الخبر إليه مصحوباً بتأكيدين أو أكثر حسب حالته في الإنكار قوة وضعفاً، ويسمى هذا الضرب : إنكارياً. كقول الرسول عليه السلام: «إن من البيان لسحراً. أو والله إن أخاك لقادم، ففي المثال الأول أتى بمؤكدين وهما : إن واللام، وفي المثال الثاني أتى بثلاثة مؤكدات : وهي القسم وإن واللام، فالتأكيد في الأولى بإن واسمية الجملة، وفي الثانية أضاف إلى هذين المؤكدين القسم واللام المبالغة المخاطبين في الإنكار. ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ) (٤) فأكد بأن واللام؛ فاحتاج الخطاب إلى التأكيد نفياً لهذا الإنكار. بخلاف قوله تعالى : ﴿إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةً أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (1) فالمخاطب هنا موسى عليه السلام، فاكتفى بتأكيد واحد لإزالة هذا التردد. فأراد الله أن ينفي إنكارهم لغفرانه ورحمته فعبر بأن واللام ليؤكد أنه غفور رحيم رغم سرعة عقابه للعاصين . وأدوات التوكيد كثيرة منها : إنّ، وقد والقسم، ولام الابتداء، والحروف الزائدة مثل من والباء) : وأما الشرطية والتكرار وضمير الفصل، واسمية الجملة . ويسمى إخراج الكلام على هذه الأضرب الثلاثة : إخراج الكلام على مقتضى الظاهر. ۱ - كأن ينزل خالي الذهن الذي لا يحتاج الخطاب معه إلى توكيد منزلة السائل المتردد الذي يحسن توكيد الكلام له، عندئذ يتطلع المخاطب تطلع السائل المتردد. ولا يشكون في ذلك، ولكنه قال مؤكداً . لأنه نزل خالي الذهن منزلة المتردد نظراً لأنهم أسرفوا على أنفسهم، فشملهم اليأس من المغفرة، فصاروا كالمترددين في أن الله يغفر ذنوبهم على كثرتها وبشاعتها، وتأمر بالسوء، فكان حق الكلام أن يأتي بدون توكيد، ولكن تقدم في الكلام ما يدعو للتساؤل، فلماذا لا يبرىء نفسه؟ فنزله منزلة السائل المتردد، فحسن عندئذ تأكيد الكلام له . لماذا لا يخاطب ربه في شأن الظالمين؟ ولماذا ينهاه عن التماس الشفاعة لهم ؟ فنزله منزلة السائل المتردد، فأكد الكلام. وقال : إنهم مغرقون . وغير ذلك مما ترى فيه الكلام قد أكد بمؤكد واحد بسبب ما لاحظه المتكلم في المخاطب. على الرغم من أنه لم يلفظ بالسؤال . ٢ - وقد ينزل غير المنكر منزلة المنكر. إذا لاح على المخاطب شيء من علامات الإنكار فينبغي حينئذ أن يؤكد له الكلام حتى يقتنع بما يلقيه عليه المتكلم من مقال، فالله يقول في شأن الكافرين (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لميتون) (1) فكل إنسان على يقين من موته، وأن أحداً لن يخلد على هذه الأرض، ولكنهم لما ظلوا متمادين في كفرهم وضلالهم غير متعظين بالموت الذي ينال كل حي، فكأنهم ينكرون الموت إنكاراً، أي بأن واللام . ولكنهم لما فتنوا في دينهم تخوفوا من عقاب الله، فنزلوا منزلة المنكرين فأكد لهم الكلام بأن واللام . فشقيق ابن عم الشاعر لا ينكر قوة بني عمه، وما لديهم من رماح ولكنه حين جاء مزهواً بنفسه، ولديهم سلاح، فوجب أن يؤكد الكلام ليوقظ فيه الشعور بقوة شكيمتهم، وقدرتهم على النزال والعراك. فأكد الكلام بذكر إن وجعل الخبر جملة اسمية . ٣ - وقد ينزل المنكر منزلة غير المنكر. فقد جاءت الآية خالية من التأكيد، مع أن الكافرين منكرون للكتاب وصحته، ومن ذلك قوله تعالى : ﴿ثُمَّ إِنَّكُم يَوْمَ القِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ) (1) . فالكافرون ينكرون البعث إنكاراً شديداً فكان مقتضى الظاهر أن يؤكد لهم الكلام بكل أنواع التوكيد، إلا أن البعث لما كانت أدلته ظاهرة كان جديراً ألا ينكر فنزل المخاطبون منزلة غير المنكر حثاً لهم على النظر في أدلته الواضحة .